محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱلۡأَخِلَّآءُ يَوۡمَئِذِۭ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوٌّ إِلَّا ٱلۡمُتَّقِينَ} (67)

{ الأخلاء يومئذ } المتخالون على المعاصي والفساد ، والصدّ عن الحق يوم القيامة { بعضهم لبعض عدو } أي معاد ، يتبرأ كل من صاحبه { إلا المتقين } أي المتصادقين في طاعة الله ومحبته . قال القاشانيّ : الخلّة إما أن تكون خيرية أولا والخيرية إما أن تكون في الله أو لله ومحبّته وغير الخيرية إما أن يكون سببها اللذة النفسانية أو النفع العقليّ . والقسم الأول هو المحبة الروحانية الذاتية المستندة إلى تناسب الأرواح في الأزل ، التي قال{[1]} فيها " فما تعارف منها ائتلف " فهم إذا برزوا في هذه النشأة ، وتوجهوا إلى الحق ، وتجددوا عن مواد الرجس ، فلما تلاقوا تعارفوا ، وإذا تعارفوا تحابوا ، لتجانسهم الأصلي ، وتوافقهم في الوجهة والطريقة ، وتشابههم في السيرة والغريزة ، وتجردهم عن الأغراض الفاسدة والأعراض الذاتية ، التي هي سبب العداوة . وانتفع كل منهم بالآخر في سلوكه وعرفانه . والتذّ بلقائه ، وتصفى بصفائه ، وتعاونوا في أمور الدنيا والآخرة . فهي الخلة التامة الحقيقية التي لا تزول أبدا كمحبة الأنبياء والأصفياء والأولياء والشهداء . والقسم الثاني هو المحبة القلبية المستندة إلى تناسب الأوصاف والأخلاق والسير الفاضلة . ونشأته الاعتقادات والأعمال الصالحة . كمحبة الصلحاء والأبرار فيما بينهم . ومحبة العرفاء والأولياء إياهم . ومحبة الأنبياء أممهم . والقسم الثالث هو المحبة النفسانية المستندة إلى اللذات الحسية والأغراض الجزئية . كمحبة الأزواج لمجرد الشهوة . ومحبة الفجار والفساق المتعاونين في اكتساب الشهوات واستلاب الأموال . والقسم الرابع هو المحبة العقلية المستندة إلى تسهيل أسباب المعاش ، وتيسير المصالح الدنيوية . كمحبة التجار والصناع . ومحبة المحسن إليه للمحسن . فكل ما استند إلى غرض فان وسبب زائل ، زال/ بزواله ، وانقلب عند فقدانه عداوة . لتوقع كل من المتحابين ما اعتاد من صاحبه ، من اللذة المعهودة والنفع المألوف . وامتناعه لزوال سببه . ولما كان الغالب على أهل العالم أحد القسمين الأخيرين ، أطلق الكلام وقال { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } لانقطاع أسباب الوصلة بينهم ، وانتفاء الآلات البدنية عنهم ، وامتناع حصول اللذة الحسية والنفع الجسماني وانقلابهما حسرات وآلاما وضررا وخسرانا . قد زالت اللذات والشهوات ، وبقيت العقوبات والتبعات . فكل يمقت صاحبه ويبغضه . لأنه يرى ما به من العذاب ، منه وبسببه . ثم استثنى المتقين المتناولين للقسمين الباقيين لقلتهم ، كما قال{[2]} { وقليل ما هم } {[3]} { وقليل من عبادي الشكور } ولعمري ، إن القسم الأول أعز من الكبريت الأحمر . وهم الكاملون في التقوى ، البالغون إلى نهايتها ، الفائزون بجميع مراتبها . ويليهم القسم الثاني . وكلا القسمين ، لاشتراكهما في طلب مرضاة الله وطلب ثوابه واجتناب سخطه وعقابه ، نسبهم سبحانه إلى نفسه بقوله : { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون 28 } .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).
[3]:(2 البقرة 282).