( ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك ، منهم من قصصنا عليك ، ومنهم من لم نقصص عليك ؛ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمر الله قضي بالحق ، وخسر هنالك المبطلون ) . .
إن لهذا الأمر سوابق كثيرة ، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب ، وبعضها لم يقصصه . وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم ؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف ؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح .
وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس ، وتتكىء عليها لتقررها تقريراً شديداً :
( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) . .
فالنفس البشرية - ولو كانت نفس رسول - تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً . فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة . ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق ؛ ويروضوا أنفسهم عليه ؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء ، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد . لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر ؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله .
ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ، ويعرفوا أن الرسل بشر منهم ، اختارهم الله ، وحدد لهم وظيفتهم ، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة . .
كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم ؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات . وإذن فهي مهلة ، وهي من الله رحمة :
( فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون ) . .
ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير .
ثم يسلي الرسولَ الكريم ومن معه بقوله تعالى :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }
وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء : 164 .
{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله }
يبين الله تعالى أن الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والإنذار وتعليم الناس ،
أما المعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته . ولا يمكن لرسول أن يأتي بمعجزة إلا بأمر الله ومشيئته . فإذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قضى بين الناس بالعدل .
ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم ، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان ، وتحملهم على الموافقة والإذعان ، فيزول النزاع بحسن الاتباع ، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام ، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر ، فلقد أرسلناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم ، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ : { ولقد أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة { رسلاً } أي بكثرة . ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه ، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال : { من قبلك } أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به : { منهم من قصصنا } أي بما لنا من الإحاطة { عليك } أي أخبارهم وأخبار أممهم { ومنهم من لم نقصص } وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة { عليك } لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم { وما } أي أرسلناهم والحال أنه ما { كان لرسول } أصلاً { أن يأتي بآية } أي ملجئة أو غير ملجئة مما يطلب الرسول استعجالاً لاتباع قومه له ، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون ، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال : { إلا بإذن الله } أي بأمره وتمكينه ، فإن له الإحاطة بكل شيء ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتسبوا ، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه { فإذا جاء } وزاد الأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال : { أمر الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح ، ومن القيامة وما فيها ، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام ، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه بالقضاء ، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة : { قُضيَ } أي بأمره على أيسر وجه وأسهله { بالحق } أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - هذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته ، وأما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات ، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } وما أشبهه { وخسر } أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر { هنالك } أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه ، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسار تمكن الجالس { المبطلون * } أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق ، إما باقتراح الآيات مع إتيانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك ، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما بالهلاك ، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين ، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها ، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } { وما كان لرسول أن يأتي بآية } إلى { وجادلوا بالباطل } و { أفلم يسيروا في الأرض } إلى { فأخذتهم فكيف كان عقاب } وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول .
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } ذلك إخبار من الله بأنه أرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم رسلا آخرين إلى أممهم . ومن أولئك الرسل من قصَّ الله نبأهم على رسوله ، ومنهم من لم يقصص نبأهم عليه . وهم في الحقيقة كثيرون ولا يعرف حقيقة عددهم إلا الله سبحانه . والمراد من هذا الإخبار تأنيس الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتسليته بما يثبت فؤاده ويزيد من قوة احتماله واصطباره على الأذى والمكاره .
قوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي ليس لرسول من المرسلين أن يأتي قومه بمعجزة من المعجزات أو خارق من الخوارق إلا أن يأذن الله له في ذلك فيتبين أنه صادق { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ } أي إذا جاء الوقت المسمى لإهلاكهم قضى الله حينئذ بالعدل وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } وهم أهل الباطل من الظالمين والجاحدين والمكذبين ، فإنهم يبوءون بالهلاك وسوء المصير{[4036]} .