في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأحقاف مكية وآيتها خمس وثلاثون :

هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة . . قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة .

هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا ، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه ، وبعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء . . هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها ، وترتبط به أوثق ارتباط ؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان .

وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ؛ وتوقع فيها على كل وتر ؛ وتعرضها في مجالات شتى ، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا . سواء بسواء .

ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامة في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .

ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة ، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .

يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين : حا . ميم . كما بدأت السور الست قبلها . تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند الله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون ، وقيامه على الحق ، وعلى التقدير والتدبير : ( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ) . . فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) .

وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند الى حق من القول ، ولا مأثور من العلم : ( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) . . ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب . ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب !

ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم له : ( هذا سحر مبين ) . . وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه . ويلقن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة ، النابع من مخافة الله وتقواه ، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة : ( قل : إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم ، وهو الغفور الرحيم . قل : ما كنت بدعا من الرسل ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، وما أنا إلا نذير مبين ) . . ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام - : ( فآمن واستكبرتم ) . . ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .

ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . ) ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم ! . )

ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : ( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) . .

ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق : ( إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) . .

ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة . ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهم . ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تائب ضارع مستسلم منيب : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) . . وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) . .

ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) . .

والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عندما كذبوا بالنذير . ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم ، التي توقعوا فيها الري والحياة ؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه : ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا : هذا عارض ممطرنا ، بل هو ما استعجلتم به ، ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . ويلمس قلوبهم بهذا المصرع ، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم . لعلهم يتأثرون ويرجعون . .

ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم الله لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة ، والشهادة له بأنه الحق : ( مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . . وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .

وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير ) . .

وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار ، فيقرون بما كانوا ينكرون ، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين !

وتختم السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قصير يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ? ) . .

والآن نأخذ فى تفصيل هذه الأشواط . .

( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ، والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) . .

هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم ، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر ، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده ، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده . كتاب هذا الكون الذي تراه العيون ، وتقرؤه القلوب .

وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير . فتنزيل الكتاب ( من الله العزيز الحكيم )هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون ، نزلت بعد سورة الجاثية . وتعالج سورة الأحقاف قضية العقيدة كسائر السور المكية ، وقد جاء الحديث فيها مفصّلا عن قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيّته المطلقة ، والإيمان بالوحي والرسالة ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه القرآن مصدِّقا لما سبقه من الكتب المنزلة ، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء .

وسميت " سورة الأحقاف " لقوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذرَ قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه . . . } الآية .

وأخو عاد هو النبي هود عليه السلام ، بعثه الله إلى قوم عاد وكانوا من أقوى الأمم أجسادا ، وأغناهم مالا ، وأكثرهم أولادا . وكانت منازلهم في الأحقاف ( ومعناها الرمال واحدها حِقف ) بين عمان وحضرموت . وكانت لهم حضارة وعناية بالعمران ، لا تزال أنقاض بعض أبنيتهم في حضرموت في " وادي عدم " وشرقيه " وادي سونة " . وقد بادت وأصبح اسمها رمزا للقِدم ، ويقال الآن " العاديّات " لكل شيء قديم .

بدأت السورة بالحروف المقطعة ، ثم تحدّثت عن أن هذا القرآن من عند الله . . وبعد ذلك أشارت إلى كتاب هذا الكون العجيب وما فيه من آيات ، وأن قيامه على الحق ، وإن ظلّ الذين كفروا معرضين عن قبوله . وبعد ذلك تأخذ السورة في عرض قضية التوحيد ، وإقامة الأدلة عليه ، والرد على عَبدة الأصنام ، وأن وضعهم لا يقوم على أساس من الواقع ، ولا مأثور من العلم . ثم تذكر المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة ، والإجابة عنها وبيان فسادها ، وتعقّب حال أهل الاستقامة الذين صدّقوا الأنبياء ، وأن جزاءهم الجنة والنعيم المقيم .

وهي إذ تذكر وصايا للناس من إكرام الوالدين وعمل ما يرضي الله ، وبعض الدعوات الصالحات { أولئك الذين نتقبّل منهم أحسن ما عملوا . . . }-لا تُغفل المقابل من المنكرين العاقّين لوالديهم { من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }

وما ينتظرهم من مآل سيّء .

وبعد ذلك يجيء ذكر قصص عاد وما عاثوا من الفساد . لقد طغوا فكان مصيرهم الهلاك { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .

وفي السورة شيء جديد هو قوله تعالى : { وإذ صرفنا نفرا من الجن يستمعون القرآن } وبعد سماعهم وإنصاتهم له ذهبوا إلى قومهم وأنذروهم وطلبوا منهم أن يُجيبوا داعيَ الله .

وتُختم السورة بتوجيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه إلى الصبر وعدم الاستعجال بالعذاب لمن أنكروا رسالته { فاصبرْ كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } فإن ما ينتظرهم قريب .

افتتحت سورة الأحقاف بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك ،

   
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول جميعهم . وهي أربع وثلاثون آية ، وقيل خمس .

قوله تعالى : " حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " تقدم{[13809]} .


[13809]:راجع ص 156 من هذا الجزء.