والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :
( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !
شَطْأه : شطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر .
آزره : أعانه وقوّاه . وهو من المؤازرة وهي المعاونة .
على سوقه : على قصبه وأصوله ، والسوق جمع ساق .
فوصفهم بأوصافٍ كلها مدائح لهم ، وذكرى لمن بعدهم . بتلك الأوصاف سادوا الأمم ، وامتلكوا الدول ، ونشروا الإسلام ، وقبضوا على ناصية العالم . وهذه الصفات هي :
1- أنهم أشدّاء على من خالف دينهم وبادأهم العداء ، وهم متراحمون متعاطفون فيما بينهم .
2- أنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله طريقتهم في أكثر أوقاتهم ، لذلك تُبِصرهم راكعين خاشعين كثيرا .
3- وأنهم بذلك يطلبون ثوابا عظيما من الله تعالى ورضوانا منه .
4- ذلك وصفهم البارز في التوراة .
5- وفي الإنجيل ضرب بصفتهم المثل فقال : سيخرج قوم ينبُتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
ذلك أنهم في بدء الإسلام كانوا قليلي العدد ثم كثروا وارتقى أمرهم يوما بعد يوم حتى أعجب الناسُ بهم ، كصفة زرع أخرج أول ما ينشقّ عنه ، فآزره فتحوّل من الدِقة إلى الغِلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجِب الزراعَ بقوّته واكتماله . وكذلك كان حال المؤمنين لِيَغيظَ الله بهم وبقوّتهم الكفار .
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
وقد وفى سبحانه وتعالى بوعده ونصر رسوله وجُندَه ، وهزم الأحزابَ وحده .
بهذه الأوصاف الجليلة يختم هذه السورة العظيمة ، وهذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها ، يوم كان المسلمون مستمسكين بالعروة الوثقى ، سائرين على هُدى دينهم بحق وإخلاص . فانظر الآن وتأمل في حال المسلمين : يحيط بهم الذل والخوف من شرذمة من اليهود تجمعت في فلسطين ، اغتصبت ديار الإسلام ، وهي تضرب العرب في لبنان صباح مساء وتبيد الناس إبادة ، وتهدم ما يصنع العرب من أدوات للتقدم حتى وصلت إلى ضرب المفاعل الذري في بغداد ، ويصرخ زعماؤها بتبجح اليهود المعروف أنها لن تسمح للعرب أن يقيموا أية آلة تجعلهم يتقدمون صناعياً وعلميا . كل هذا وحكام العرب خائفون ساكتون كأن شيئا لم يحدث ، وزعماؤهم يتباكون ويطلبون من أمريكا عدوّ العرب الأول أن تحلّ لهم قضيتهم ! يا للذل والعار ! كيف نستطيع أن نواجه ربنا غداً يوم نلقاه !
ما هي العلة التي نتعلل بها لرسولنا الكريم ! لعل الله أن يبدل الحالَ غير الحال ، ويخضّر الزرعُ بعد ذبوله ، وتعود الأمة إلى سيرتها الأولى ، متمسكة بدينها الحنيف ، مجتمعة الكلمة ، موحدة الهدف . واللهَ أسأل أن يلهمنا الصواب والرشد والرجوع إلى ديننا الحنيف . وعند ذلك ينطبق علينا قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } والحمد لله رب العالمين .
ثم حقق الله تلك الشهادة وبينها فقال { محمد رسول الله والذين معه } من المؤمنين { أشداء } غلاظ { على الكفار رحماء بينهم } متوادون متعاطفون { تراهم ركعا سجدا } في صلواتهم { يبتغون فضلا من الله } أن يدخلهم الجنة { ورضوانا } أن يرضى عنهم { سيماهم } علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } يعني نورا وبياضا في وجوههم يوم القيامة يعرفون بذلك النور أنهم سجدوا في دار الدنيا لله تعالى { ذلك مثلهم } صفة محمد ص وأصحابه { في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } فراخه ونباته { فآزره } قواه وأعانه أي قوى الشطأ الزرع كما قوى أمر محمد وأصحابه والمعنى أنهم يكونون قليلا ثم يكثرون وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه عليه السلام إذ خرج وحده فأيده بأصحابه كما قوى الطاقة من الزرع بما ينبت حوله { فاستغلظ } فغلظ وقوي { فاستوى } ثم تلاحق نباته وقام على { سوقه } جمع ساق { يعجب الزراع } بحسن نباته واستوائه { ليغيظ بهم الكفار } فعل الله تعالى ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } أي من أصحاب محمد عليه السلام { مغفرة وأجرا عظيما }
الأولى- قوله تعالى : " محمد رسول الله " " محمد " مبتدأ و " رسول " خبره . وقيل : " محمد " ابتداء و " رسول الله " نعته . " والذين معه " عطف على المبتدأ ، والخبر فيما بعده ، فلا يوقف على هذا التقدير على " رسول الله " . وعلى الأول يوقف على " رسول الله " ؛ لأن صفاته عليه السلام تزيد على ما وصف أصحابه ، فيكون " محمد " ابتداء و " رسول الله " الخبر " والذين معه " ابتداء ثان . و " أشداء " خبره و " رحماء " خبر ثان . وكون الصفات في جملة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو الأشبه . وقيل : المراد ب " الذين معه " جميع المؤمنين . " أشداء على الكفار " قال ابن عباس : أهل الحديبية أشداء على الكفار ، أي غلاظ عليهم كالأسد على فريسته . " رحماء بينهم " أي يرحم بعضهم بعضا . وقيل : متعاطفون متوادون . وقرأ الحسن " أشداء على الكفار رحماء بينهم " بالنصب على الحال ، كأنه قال : والذين معه في حال شدتهم على الكفار وتراحمهم بينهم . " تراهم ركعا سجدا " إخبار عن كثرة صلاتهم . " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " أي يطلبون الجنة ورضا الله تعالى .
الثانية- قوله تعالى : " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " السيما العلامة ، وفيها لغتان : المد والقصر ، أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر . وفي سنن ابن ماجة قال : حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي قال حدثنا ثابت بن موسى أبو يزيد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقال ابن العربي : ودسه قوم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الغلط ، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذكر بحرف . وقد روى ابن وهب عن مالك " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود ، وبه قال سعيد بن جبير . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : صلى صبيحة إحدى وعشرين من رمضان وقد وكف{[14031]} المسجد وكان على عريش ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وعلى جبهته وأرنبته أثر الماء والطين . وقال الحسن : هو بياض يكون في الوجه يوم القيامة . وقاله سعيد بن جبير أيضا ، ورواه العوفي عن ابن عباس . قاله الزهري . وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ، وفيه : [ حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ] . وقال شهر بن حوشب : يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا وهو السمت الحسن . وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع . قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى : " سيماهم في وجوههم " أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال لا ، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع . وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء . وقال شمر بن عطية : هو صفرة الوجه من قيام الليل . قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . وقال الضحاك : أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة . وقال سفيان الثوري : يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم ، بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : [ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ] . وقد مضى القول فيه آنفا . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس .
الثالثة- قوله تعالى : " ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " قال الفراء : فيه وجهان ، إن شئت قلت المعنى ذلك مثلهم في التوراة وفي الإنجيل أيضا ، كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على " الإنجيل " وإن شئت قلت : تمام الكلام ذلك مثلهم في التوراة ، ثم ابتداء فقال : ومثلهم في الإنجيل . وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما في التوراة والآخر في الإنجيل ، فيوقف على هذا على " التوراة " . وقال مجاهد : هو مثل واحد ، يعني أن هذه صفتهم في التوراة والإنجيل ، فلا يوقف على " التوراة " على هذا ، ويوقف على " الإنجيل " ، ويبتدئ : " كزرع أخرج شطأه " على معنى وهم كزرع . و " شطأه " يعني فراخه وأولاده ، قاله ابن زيد وغيره . وقال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فقد شطأه . قال الجوهري : شطء الزرع والنبات فراخه ، والجمع أشطاء . وقد أشطأ الزرع خرج شطؤه . قال الأخفش في قوله : " أخرج شطأه " أي طرفه . وحكاه الثعلبي عن الكسائي . وقال الفراء : أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا خرج . قال الشاعر :
أخرج الشطء على وجه الثرى *** ومن الأشجار أفنان الثمر
الزجاج : أخرج شطأه أي نباته . وقيل : إن الشطء شوك السنبل ، والعرب أيضا تسميه : السفا ، وهو شوك البُهْمَى{[14032]} ، قاله قطرب . وقيل : إنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قال الفراء ، حكاه الماوردي . وقرأ ابن كثير وابن ذكوان " شطأه " بفتح الطاء ، وأسكن الباقون . وقرأ أنس ونصر بن عاصم وابن وثاب " شطاه " مثل عصاه . وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق " شطه " بغير همز ، وكلها لغات فيها .
وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه . فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان . وقال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . " فآزره " أي قواه وأعانه وشده ، أي قوى الشطء الزرع . وقيل بالعكس ، أي قوى الزرع الشطء . وقراءة العامة " آزره " بالمد . وقرأ ابن ذكوان وأبو حيوة وحميد بن قيس " فأزره " مقصورة ، مثل فعله . والمعروف المد . قال امرؤ القيس :
بمَحْنِيَةَ{[14033]} قد آزر الضَّال نبتُها *** مَجَرَّ جيوشٍ غانمينَ وخُيَّبِ
" فاستغلظ فاستوى على سوقه " على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقا له . والسوق : جمع الساق . " يعجب الزراع " أي يعجب هذا الزرع زراعه . وهو مثل كما بينا ، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والشطء أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، قاله الضحاك وغيره . " ليغيظ بهم الكفار " اللام متعلقة بمحذوف ، أي فعل الله هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار .
الرابعة- قوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا " أي وعد الله هؤلاء الذين مع محمد ، وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة . و " من " في قوله : " منهم " مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم ، ولكنها عامة مجنسة ، مثل قوله تعالى : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " {[14034]} [ الحج : 30 ] لا يقصد للتبعيض لكنه يذهب إلى الجنس ، أي فاجتنبوا الرجس من جنس الأوثان ، إذ كان الرجس يقع من أجناس شتى ، منها الزنى والربا وشرب الخمر والكذب ، فأدخل " من " يفيد بها الجنس وكذا " منهم " ، أي من هذا الجنس ، يعني جنس الصحابة . ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ، أي اجعل نفقتك هذا الجنس . وقد يخصص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بوعد المغفرة تفضيلا لهم ، وإن وعد الله جميع المؤمنين المغفرة . وفي الآية جواب آخر : وهو أن " من " مؤكدة للكلام ، والمعنى وعدهم الله كلهم مغفرة وأجرا عظيما . فجرى مجرى قول العربي : قطعت من الثوب قميصا ، يريد قطعت الثوب كله قميصا . و " من " لم يبعض شيئا . وشاهد هذا من القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء " {[14035]} [ الإسراء : 82 ] معناه وننزل القرآن شفاء ، لأن كل حرف منه يشفي ، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض . على أن من اللغويين من يقول : " من " مجنسة ، تقديرها ننزل الشفاء من جنس القرآن ، ومن جهة القرآن ، ومن ناحية القرآن . قال زهير :
أمن أم أوفَى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ{[14036]}
أراد من ناحية أم أوفى دمنة ، أم من منازلها دمنة . وقال الآخر :
أخو رغائبَ يُعْطِيهَا ويسألُها *** يأبَى الظُّلاَمَةَ منه النَّوْفُلُ الزُّفَرُ{[14037]}
ف " من " لم تبعض شيئا ، إذ كان المقصد يأبى الظلامة لأنه نوفل زفر . والنوفل : الكثير العطاء . والزفر : حامل الأثقال والمؤن عن الناس .
الخامسة- روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ مالك هذه الآية " محمد رسول الله والذين معه " حتى بلغ " يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار " . فقال مالك : من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ، ذكره الخطيب أبو بكر .
قلت : لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله . فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين ، قال الله تعالى : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار " الآية . وقال : " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " [ الفتح : 18 ] إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح ، قال الله تعالى : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " {[14038]} [ الأحزاب : 23 ] . وقال : " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " إلى قوله " أولئك هم الصادقون " {[14039]} [ الحشر : 8 ] ، ثم قال عز من قائل : " والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم " إلى قوله " فأولئك هم المفلحون " {[14040]} [ الحشر : 9 ] . وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ) وقال : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) خرجهما البخاري . وفي حديث آخر : ( فلو أن أحدكم أنفق ما في الأرض لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه ) . قال أبو عبيد : معناه لم يدرك مد أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد ، فالنصيف هو النصف هنا . وكذلك يقال للعشر عشير ، وللخمس خميس ، وللتسع تسيع ، وللثمن ثمين ، وللسبع سبيع ، وللسدس سديس ، وللربع ربيع . ولم تقل العرب للثلث ثليث .
وفي البزار عن جابر مرفوعا صحيحا : ( إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين واختار لي من أصحابي أربعة - يعني أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - فجعلهم أصحابي ) . وقال : ( في أصحابي كلهم خير ) . وروى عويم بن ساعدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل اختارني واختار لي أصحابي فجعل لي منهم وزراء وأختانا وأصهارا فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا{[14041]} ولا عدلا ) . والأحاديث بهذا المعنى كثيرة ، فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها ، فروايته مطروحة . وهذا رد لما ذكرناه من الكتاب والسنة ، وإبطال لما نقلته لنا الصحابة من الملة . فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجهني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما ، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجرا عظيما . فمن نسبه أو واحدا من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة ، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومتى ألحق واحد منهم تكذيبا فقد سب ، لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظم من الكذب ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أصحابه ، فالمكذب لأصغرهم - ولا صغير فيهم - داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألزمها كل من سب واحدا من أصحابه أو طعن عليه . وعن عمر بن حبيب قال : حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم ، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم : لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه ، وصرحوا بتكذيبه ، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا : الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب ، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي ، فلم ألبث حتى قيل : صاحب البريد بالباب ، فدخل فقال لي : أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول ، وتحنط وتكفن فقلت : اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك ، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه ، فسلمني منه . فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب ، حاسر عن ذراعيه ، بيده السيف وبين يديه النطع{[14042]} ، فلما بصر بي قال لي : يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء{[14043]} به ، إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة ، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول فرجع إلى نفسه ثم قال : أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله ، وأمر لي بعشرة آلاف درهم .
قلت : فالصحابة كلهم عدول ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله . هذا مذهب أهل السنة ، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة . وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم ، فيلزم البحث عن عدالتهم . ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال : إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك ، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء ، فلا بد من البحث . وهذا مردود ، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى : " مغفرة وأجرا عظيما " . وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك . وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم ، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد ، وكل مجتهد مصيب . وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة " الحجرات " مبينة إن شاء الله تعالى .
{ والذين معه } يعني : جميع أصحابه وقيل : من شهد معه الحديبية وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع ، وقيل : الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا والأول عندي أرجح لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأما على ما اختاره ابن عطية فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه : { بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وقال : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين { سيماهم في وجوههم } السيما العلامة وفيه ستة أقوال :
الأول : أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلي من كثرة السجود .
الثاني : أنه أثر التراب في الوجه .
الثالث : أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة .
الرابع : حسن الوجه لما ورد في الحديث : " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " . وهذا الحديث غير صحيح بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه .
السادس : أن ذلك يكون في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله : { تراهم ركعا سجدا } وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك ، والأول أظهر ، وقد كان بوجه علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود .
{ ذلك مثلهم في التوراة } أي : وصفهم فيها وتم الكلام هنا ، ثم ابتدأ قوله و{ مثلهم في الإنجيل } ، كزرع ، وقيل : إن { مثلهم في الإنجيل } عطف على { مثلهم في التوراة } ثم ابتدأ قوله : { كزرع } وتقديره : هم كزرع ، والأول أظهر ، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة .
{ كزرع أخرج شطأه } هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ، ثم قوي وظهر ، وقيل : الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطأ وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، ويقال : بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات .
{ فآزره } أي : قواه وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول شطأه أو بالعكس لأن كل واحد منهما يقوي الآخر ، وقيل : معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله ، وقيل : أفعله ، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل .
{ فاستوى على سوقه } جمع ساق أي : قام الزرع على سوقه ، وقيل : قوله : { كزرع } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب .
{ ليغيظ بهم الكفار } تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقيل : يتعلق بوعد وهو بعيد { منهم } لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم .
ولما{[60520]} ختم سبحانه بإحاطة العلم بالخفايا والظواهر في الإخبار بالرسالة ، عينها في قوله جواباً لمن يقول : من الرسول المنوه باسمه{[60521]} : { محمد رسول الله } أي الملك الذي لا كفوء له ، فهو{[60522]} الرسول الذي لا رسول يساويه لأنه رسول إلى جميع الخلق ممن أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه ، وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه ، وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم ، لا يكتب الرحمة التي وسعت كل شيء إلا لمن وقع العلم بالمحيط بإنه يؤمن به ، فما عمل عامل عملاً صالحاً إلا كان له مثل أجره ، تقدم ذلك العامل أو تأخر ، كان من أهل السماء أو من أهل الأرض ، وهذا أمر لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى ، وأشار بذلك إلى هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الختام - بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج ، وهي محيطة بما أشارت إليه صورته ، وكررت في الاسم {[60523]}بعده غاية{[60524]} التأكيد ، وهو ثلاث - كما أشار إليه اسمه : أحمد - إلى أنه مع كونه خاتماً فهو فاتح بما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم " كنت أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً " واختصت به سورة الصف ليعادل ذلك بتصريح المبشر به عليه{[60525]} الصلاة والسلام بالبعدية{[60526]} في قوله
{ برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }[ الصف : 6 ] وأشارت الميم أوله أيضاً إلى بعثه عند الأربعين ، وما بقي من حروفه وهي حمد يفيد{[60527]} له كمال{[60528]} الحمد بالفعل في السنة الثانية والخمسين من عمره وهي الثانية {[60529]}عشرة من نبوته{[60530]} ببيعة الأنصار رضي الله عنهم ، وقد أشارت هذه السورة إلى كلمة الإخلاص تلويحاً بما ذكرت من كلمة الرسالة تصريحاً وبطنت{[60531]} سطوة الإلهية {[60532]}وظهرت{[60533]} الرحمة المحمدية - كما أشارت القتال إلى الرسالة تلويحاً وصرحت بسطوة الإلهية-{[60534]} بكلمة الإخلاص والناشئة{[60535]} عن القتال تصريحاً ، وقد تقدم في القتال نبذة من أسرار الكلمتين{[60536]} . ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى : { والذين معه } أي بمعية{[60537]} الصحبة من أصحابه وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان : ولما كان شرف القوم شرفاً لرئيسهم ، مدحهم بما يشمله فقال تعالى : { أشداء على الكفار } فهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته ، لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم { رحماء بينهم } كالوالد مع الولد ، لأن الله تعالى أمرهم باللين للمؤمنين ، ولا مؤمن في زمانهم إلا من كان من أهل دينهم ، فهو يحبهم ويحبونه بشهادة آية المائدة .
ولما كان هذا بخلاف ما وصفت به الأمم الماضية من أنهم ما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم ، فكان عجباً ، بين الحامل عليه بقوله : { تراهم } أي أيها الناظر لهم { ركعاً سجداً } أي دائمي الخضوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملائكة على صفاتهم الحيوانية ، فكانت الصلاة آمرة لهم بالخير مصفية عن كل نقص وضير{[60538]} .
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء ، بين إخلاصهم بقوله : { يبتغون } أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم { فضلاً } أي زيادة في الخير { من الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ، ولا محسن سواه . ولما ذكر عبادتهم وطلبهم الزيادة منها ومن غيرها من فضل الله الذي لا يوصل إلى عبادته إلا بمعونته ، أتبعه المطلوب الأعلى فقال : { ورضواناً } أي رضاء منه عظيماً .
ولما ذكر كثرة عبادتهم وأتبعها إخلاصهم فيها اهتماماً به لأنه لا يقبل عملاً بدونه ، دل على كثرتها بقوله : { سيماهم } أي علامتهم التي لا تفارقهم { في وجوههم } ثم بين العلامة بقوله : { من أثر السجود } فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني{[60539]} عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم{[60540]} - هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث أنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه{[60541]} ذكر الله ، وإذا قرأ أورثت قراءته حزناً وخشوعاً وإخباتاً وخضوعاً ، وإن كان رث الحال رديء الهيئة ، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر سجود في جبهته ، فإذا ذلك من سيما الخوارج ، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير-{[60542]} الثفن{[60543]} : ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : رأى رجلاً بين عينيه مثل-{[60544]} ثفنة العنز ، فقال : لو لم يكن هذا لكان خيراً - يعني كان على جبهته أثر السجود ، وإنما كرهها خوفاً من الرياء بها ، وقد روى صاحب الفردوس عن أنس رضي الله عنه عن{[60545]} النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{[60546]} : " إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود{[60547]} " .
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاه الله من جميع حظوظه وشهواته ، أشار إلى علوه فقال : { ذلك } أي هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال { مثلهم في التوراة } فإنه{[60548]} قال فيها : أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير ، وظهر لنا من جبل فاران ، معه ربوات{[60549]} الأطهار على يمينه ، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك . فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره صلى الله عليه وسلم ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته ، وأنهم في الطهارة كالملائكة ، وأيد ذلك جعلهم من أهل اليمين ، ووصفهم بالتحبيب إلى الشعوب ، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من شهادة الوجود - هذا مع-{[60550]} ما وجدته في التوراة بعد تبديلهم لما بدلوا منها وإخفائهم كما قال الله-{[60551]} تعالى لكثير{[60552]} ، وروى {[60553]}أصحاب فتوح{[60554]} البلاد في فتح بيت المقدس عن كعب الأحبار أن سبب إسلامه أن أباه كان-{[60555]} أخبره أنه ذخر{[60556]} عنه ورقتين جعلهما في كوة وطين عليهما ، وأمره أن يعمل بهما بعد موته ، قال : فلما مات فتحت عنهما فإذا فيهما : محمد رسول الله صلى الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره{[60557]} بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي السيئة بالسيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح ، وإن{[60558]} أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شيء وعلى كل حال ، ويذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناواه ، يغسلون فروجهم بالماء ، ويؤثرون على أواسطهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، يأكلون قربانهم{[60559]} في بطونهم ويؤجرون عليها ، تراحمهم بينهم تراحم بين الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، هم السابقون المقربون والشافعون والمشفع لهم .
وأصله في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفي الدارمي عن كعب هذا ، ولأصحاب الفتوح عن سمرة بن حوشب عن كعب قال : قلت لعمر رضي الله عنه وهو بالشام عند انصرافه : يا أمير المؤمنين ! إنه مكتوب في كتاب الله " إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين ، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين ، سره مثل علانيته ، وعلانيته مثل سره ، وقوله لا يخالف فعله ، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء ، أتباعه رهبان بالليل أسد بالنهار ، متراحمون متباذلون " فقال عمر : ثكلتك أمك أحق ما تقول ؟ قلت : أي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما نقول ! إنه لحق ، فقال عمر : فالحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم ورحمته{[60560]} التي وسعت كل شيء - هذا على أن المراد بالمثل الوصف ، ويمكن أن يكون على حقيقته ، ويكون الذي في التوراة ما ترجمته " هم على أعدائهم كقرون الحديد وفيما بينهم في النفع والتواصل كالماء والصعيد ، ولربهم كخامة الزرع مع الريح والصديق النصيح{[60561]} ، وفي الإقبال على الآخرة كالمسافر الشاحب والباكي الناحب " فعبر عنه في كتابنا بما ذكر .
ولما ذكر مثلهم في الكتاب الأول ، أتبعه الكتاب الثاني الذي هو ناسخ ليعلم أنه قد{[60562]} أخذ على كل ناسخ لشريعته{[60563]} أن يصفهم لأمته ليتبعوهم إذا دعوهم فقال : { ومثلهم في الإنجيل } أي الذي نسخ الله به بعض أحكام التوراة { كزرع } أي مثل زرع { أخرج شطأه } أي فراخه وورقه وما خرج حول أصوله ، فكان ذلك كله مثله .
ولما ذكر هذا الإخراج سبب عنه قوله { فآزره } أي فأحاط به الشطأ ، فقواه وطهره من غير نبتة نبتت عنه فتضعفه و{[60564]}ساواه وحاذاه{[60565]} وعاونه ، ويظهر أن قراءة الهمزة بالمد{[60566]} على المفاعلة أبلغ من قراءة ابن عامر بالقصر ، لأن الفعل إذا كان بين اثنين يتجاذبانه كان الاجتهاد{[60567]} فيه أكثر ، ثم سبب عن المؤازرة قوله : { فاستغلظ } أي فطلب المذكور من الزرع والشطأ{[60568]} الغلظ وأوجده{[60569]} فتسبب عن ذلك اعتداله{[60570]} { فاستوى } أي وجد فيه القيام العدل وجوداً عظيماً كأنه-{[60571]} كان بغاية الاجتهاد والمعالجة { على سوقه } أي قصبه ، جمع ساق ، وهو ما قام عليه الشيء ، حال كون هذا المذكور من الزرع والشطأ { يعجب الزراع } ويجوز كونه استنئافاً للتعجب منه والمبالغة في مدحه وإظهار السرور في أمره ، وإذا أعجبهم{[60572]} وهم في غاية العناية بأمره والتفقد لحاله والملابسة له ومعرفة معانيه كان{[60573]} لغيرهم أشد إعجاباً ، ومثل لأنهم يكونون قليلين ثم يكثرون مع البهجة في عين الناظر لما لهم من الرونق الذي منشؤه نور الإيمان وثبات الطمأنينة والإيقان وشدة الموافقة{[60574]} من بعضهم لبعض ، ونفي المخالف لهم وإبعاده ، وقد تقدم في هذا الكتاب في آخر المائدة أمثال ضربت في الإنجيل بالزرع أقربها إلى هذا مثل حبة{[60575]} الخردل فراجعه .
ولما أنهى سبحانه مثلهم-{[60576]} ، ذكر الثمرة في جعلهم كذلك فقال : { ليغيظ } معلقاً له بما يؤخذ من معنى الكلام وهو جعلهم كذلك لأجل أن يغيظ { بهم } أي غيظاً شديداً{[60577]} بالغ القوة والإحكام { الكفار } وذلك أنهم لما كانوا أول الأمر قليلاً ، كان الكفار طامعين{[60578]} في أن لا يتم لهم أمر ، فكلما ازدادوا{[60579]} كثرة مع تمادي الزمان زاد غيظ الكفار منهم ، فكيف إذا رأوا مع الزيادة والقوة منهم حسناً ونضارة ورونقاً وبهجة ، فهو{[60580]} في الغيظ مما لو-{[60581]} كانوا في أول الأمر كثيراً لأنه كان يكون دفعه ويقصر زمنه ، فمن أبغض صحابياً خيف عليه الكفر لأنهم أول مراد بالآية ، وغيرهم بالقصد الثاني وبالتبع{[60582]} ، ومن أبغضهم كلهم كان كافراً ، وإذا حملناه على غيرهم كان دليلاً على أن كل{[60583]} من خالف الإجماع كفر - قاله القشيري .
ولما ثم مثلهم وعلة جعلهم كذلك ، بشرهم فقال في موضع وعدهم{[60584]} لتعليق الوعد بالوصف على عادة القرآن ترغيباً في التمسك به وترهيباً من مجانبته : { وعد الله } أي الملك الأعظلم { الذين آمنوا } ولما كان الكلام في الذين معه صلى الله عليه وسلم ، وكانت المعية ظاهرة في الاتحاد في الدين لم تكن شاملة للمنافقين ، فلم يكن الاهتمام {[60585]}بالتقييد بمنهم هنا{[60586]} كالاهتمام به في سورة النور ، فأخره وقدم العمل لأن العناية به-{[60587]} هنا أكثر ، لأنه من سيماهم المذكورة{[60588]} فقال : { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم الكون معه في الدين { الصالحات } ولما كان قوله " معه{[60589]} " يعم كما مضى من بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وكان الخلل فيمن بعدهم كثيراً ، قيد بقوله : { منهم } أي من الذين معه صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من أصل الزرع أو فراخه التي أخرجها وهم التابعون{[60590]} لهم بإحسان .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عن بلوغ ما يحق له من العبادة ، أشار إلى ذلك بقوله : { مغفرة } أي لما يقع منهم من الهفوات أو الذنوب والسيئات { وأجراً عظيماً * } بعد ذلك الستر ، وقد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر{[60591]} التصريحية باجتماع أمرهم وعلو نصرهم ، وذلك أنه لما كانت هذه العمرة قد حصل لهم فيها كسر لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم من الدخول إلى مكة المشرفة والطواف بالبيت العتيق ، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قبلهم كما كان في غزوة أحد على ما مضى من{[60592]} بيانه في آل عمران التي هي سورة التوحيد الذي كلمته كلمة التقوى عند الآية الثانية لهذه ، بشرهم سبحانه بما في هذه السورة من البشائر الظاهرة تصريحاً وبما في هذه الآية الخاتمة من جمعها لجميع حروف المعجم تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد من تمامه ، واشتداد سلكه وانبرامه ، واتساق شأنه وانتظامه ، وخفوق ألويته وأعلامه ، وافتتحها بميم " محمد " وهي مضمومة ، وختمها بميم " عظيماً " المنصوبة إشارة بما للميم من الختام بمخرجها إلى أن تمام الأمر قد دنا جداً{[60593]} إبانه ، وحضر زمانه ، وبما في أولها من الضم إلى رفعة دائمة في حمد-{[60594]} كثير ، وبما في آخرها من النصب إلى تمام الفتح وانتشاره ، وقربه واشتهاره ، على وجه عظيم ، وشرف في علو جسيم ، وأومأ تدويرها إلى أنه أمر لا انتهاء له ، بل كلما ختم ابتدأ ، وقد ظهر من هذا وما في صريح الآية من القوة المعزة للمؤمنين المذلة للكافرين رد مقطعها على مطلعها بالفتح للنبي صلى الله عليه وسلم والتسكين العظيم لأصحابه-{[60595]} رضي الله عنهم ، والرحمة والمغفرة والفوز العظيم لجميع أتباعه وأنصاره وأشياعه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وجعلنا{[60596]} بمنه وكرمه منهم{[60597]} ،
وهذا آخر القسم الأول من القرآن ، وهو المطول ، وقد ختم - كما ترى - بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وحاصلهما الفتح له بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً كما ختم الثاني المفصل بسورتين هما نصرة له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً - {[1]}والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه{[2]} . {[3]}
قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
ذلك وصف من الله للمؤمنين الصادقين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم خير قرن في القرون ، وأشرف طائفة من الناس في البرايا أقلتهم هذه الأرض وذكرهم التاريخ . ذلكم وصفهم في تلكم الآية الفضلى بكلماتها الموحية الضخمة ، وعباراتها الرصينة العذاب . وهو قوله سبحانه : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } { محمد } ، مرفوع على أنه مبتدأ . و { رسول الله } خبره . أو { محمد } مبتدأ و { رسول الله } صفته . والذين معه عطف على { محمد } . و { أشداء } خبر عن الجميع . و { رحماء } خبر ثان{[4276]} .
هذا وصف لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من المؤمنين في كل زمان ، في حقيقة خلقهم وسلوكهم مناقبهم ، فإنهم قساة غلاظ على الكافرين حتى يؤمنوا . فالكافرون بظلمهم وجحودهم وفساد مقاصدهم وسلوكهم واتباعهم للشهوات والأهواء والضلال ، وفرط حنقهم على الإسلام والمسلمين لا يستحقون العطف واللين بل الشدة والعنف . وفي مقابل ذلك فإن المؤمنين رحماء بينهم . فهم متوادون متحابون متعاونون لا تخالط قلوبهم أوشاب من أدناس اللؤم والأثرة والحسد والضغينة . وفي الحديث : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبّك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه .
قوله : { تراهم ركعا سجدا } { ركعا سجدا } منصوبان على الحال ، لأن ذلك من رؤية البصر{[4277]} ، فقد وصفهم بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } يبتغي المؤمنون بكل ما يفعلونه من صلاة وغيرها من أوجه العبادة { فضلا من الله ورضوانا } أي جنته ورضاه . وهذه غاية ما يرتجيه المؤمنون الصادقون المخلصون لله في أعمالهم وعباداتهم .
قوله : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } { سيماهم } مبتدأ ، وخبره { في وجوههم } أو خبره { من أثر السجود } والسيما ، والسيمة والسيماء والسيميا ، العلامة . والمراد بها السمة التي تحدث في جبهة الساجدين من كثرة السجود . وفسر ذلك قوله : { من أثر السجود } أي من التأثير الذي يحدثه السجود في الوجه . وقيل : معناه السمت الحسن . وقيل : المراد ، أثر الإسلام يظهر على وجوه المؤمنين المخلصين من خشوع وزهد وسكينة وتواضع وتقوى .
قوله : { ذلك مثلهم في التوراة } يعني هذه الصفة المذكورة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صفتهم في التوراة { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه } الشطء معناه الفراخ . شطأ الزرع أو النبات فراخه . وقد أشطأ الزرع أي خرج فراخه{[4278]} يعني : ووصفهم في الإنجيل كزرع أخرج فراخه . وقد وصفهم بذلك ، لأنهم ابتدأوا في دخول الإسلام وهم قلة ثم تزايدوا ، إذ دخلوا في دين الله جماعة بعد جماعة حتى كثروا . على أن الراجح أن مثلهم في التوراة غير مثلهم في الإنجيل ، وأن الخبر عن مثلهم في التوراة متناه عند قوله : { ذلك مثلهم في التوراة } فهنا الوقف . ثم يستأنف قوله : { ومثلهم في الإنجيل } .
قال القرطبي : هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون . فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوي حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه .
قوله : { فآزره } يعني قواه وأعانه ، أي قوّى الزرع شطأه أو فراخه وأعانه . وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة { فاستغلظ } أي صار الزرع غليظا بعد دقته وضعفه { فاستوى على سوقه } جمع ساق . وساق الزرع ، عوده الذي يحمله ، ويقوم عليه ، أي استقام الزرع على أعواده .
قوله : { يعجب الزراع } يعني : هذا الزرع بإفراخ شطئه واستغلاظه واستوائه على أعواده وحسن منظره ، يعجب الزراع الذين زرعوه .
قوله { ليغيظ بهم الكفار } أي مثّل الله هذا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى نموا وازدادوا و كثروا واشتد أمرهم وقويت شوكتهم ليغيظ بهم الكفار . قوله : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } ذلك وعد من الله للمؤمنين المذعنين لله بالخضوع والطاعة ، بأن يستر عليهم ما اجترحوه من السيئات والذنوب وأن يجزيهم الأجر العظيم وهو الجنة . وليست { منهم } للبعضية ، بل لبيان الجنس ، كقوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } فالمراد ، من هذا الجنس ، أي جنس الصحابة وسائر الداخلين في دين الإسلام المتمسكين بشريعة الله ، المعتصمين بعقيدة الإيمان والتوحيد ، المستسلمين لأوامر الله وأحكام دينه{[4279]} .