( الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها . فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ) . .
فالله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت . وهو يتوفاها كذلك في منامها - وإن لم تمت بعد - ولكنها في النوم متوفاة إلى حين . فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ . والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو . إلى أن يحل أجلها المسمى . فالأنفس في قبضته دائماً في صحوها ونومها .
الأولى- قوله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها " أي يقبضها عند فناء آجالها " والتي لم تمت في منامها " اختلف فيه . فقيل : يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها . قال ابن عيسى{[13315]} . وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها . قال : وقد يكون توفيها نومها ، فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها . وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها . وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى " أي يعيدها . قال علي رضي الله عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين ، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة . وقال ابن زيد : النوم وفاة والموت وفاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون ) . وقال عمر : النوم أخو الموت . وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبد الله قيل : يا رسول الله أينام أهل الجنة ؟ قال : ( لا ، النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها ) خرجه الدارقطني . وقال ابن عباس : ( في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحريك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ) . وهذا قول ابن الأنباري والزجاج . قال القشيري أبو نصر : وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد ؛ ولهذا قال : " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض ، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة . وقوله : " ويرسل الأخرى " أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان . فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك . وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية . " فيمسك التي قضى عليها الموت " بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت ؟ " ويرسل الأخرى " بأن يعيد إليها الإحساس .
الثانية- وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح ، هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا . والأظهر أنهما شيء واحد ، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب . من ذلك حديث أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق{[13316]} بصره فأغمضه ، ثم قال : ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره ) قال : ( فذلك حين يتبع بصره نفسه ) خرجهما مسلم . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء . . . ) وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة ، وقد ذكرناه في التذكرة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : ( إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها . . . ) . وذكر الحديث . وقال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : ( يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا ) .
الثالثة- والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة ، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج ، وبه إلى السماء يعرج ، لا يموت ولا يفنى ، وهو مما له أول وليس له آخر ، وهو بعينين ويدين ، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة ، كما في حديث أبي هريرة . وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض ، وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة . وقال تعالى : " فلولا إذا بلغت الحلقوم " [ الواقعة : 83 ] يعني النفس إلى خروجها من الجسد ، وهذه صفة الجسم . والله أعلم .
الرابعة- خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليُسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها ) . وقال البخاري وابن ماجة والترمذي : ( فارحمها ) بدل ( فاغفر لها ) ( وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) زاد الترمذي ( وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره ) . وخرج البخاري عن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ، ثم يقول : ( اللهم باسمك أموت وأحيا ) وإذا استيقظ قال : ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) .
قوله تعالى : " فيمسك التي قضى عليها الموت " هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل " الموت " نصبا ، أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ؛ لقوله في أول الآية : " الله يتوفى الأنفس " فهو يقضي عليها . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " قضي عليها الموت " على ما لم يسم فاعله . النحاس ، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام ؛ لأنهم قد أجمعوا على " ويُرسِلُ " ولم يقرؤوا " ويُرسَلُ " . وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ، ويحيي ويميت ، لا يقدر على ذلك سواه . " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " يعني في قبض الله نفس الميت والنائم ، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت . وقال الأصمعي : سمعت معتمرا يقول : روح الإنسان مثل كبة{[13317]} الغزل ، فترسل الروح ، فيمضي ثم تمضي ثم تطوى فتجيء فتدخل ، فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا ، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد . وقيل غير هذا ، وفي التنزيل : " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء : 85 ] أي لا يعلم حقيقته إلا الله . وقد تقدم في " سبحان " {[13318]} .
ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق ، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت ، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه ، وكان كأنه قيل : لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك ، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم ، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله ، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة ، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب ، فهي تسلية له صلى الله عليه وسلم ، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له ، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً ، فقال : { الله } أي الذي له مجامع الكمال ، وليس لشائبة نقص إليه سبيل { يتوفى الأنفس } التي ماتت عند انقضاء آجالها ، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد ، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة ، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها { حين موتها } أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له ، وعطف على الأنفس قوله : { والتي } أي ويتوفى الأنفس التي { لم تمت } لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة { في منامها } بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة ، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف ، ولو قيل : بموتها وبمنامها ، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى .
ولما كان النوم منقضياً ، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض ، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد ، فسبب عن ذلك قوله : { فيمسك } أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده { التي قضى } أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه ، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة { عليها الموت } مظروفة لمماتها ، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها { ويرسل الأخرى } أي التي أخر موتها ، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها ، ويجعل ذلك الإمساك للميتة ، والإرسال للنائمة { إلى أجل مسمى } لبعث الميتة ولموت النائمة ، لا يعلمه غيره ، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة ، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح ، قال ابن الصلاح في فتاويه : وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة - انتهى .
روى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال : تلتقي أرواح الأحياء والأموات ، فيتساءلون بينهم ، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها . وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل " باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " " وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك : ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً ، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً .
ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع ، والنظم المنيع ، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه { لآيات } أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره ، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده { لقوم } أي ذوي قوة في مزاولة الأمور . ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال : { يتفكرون * } أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله ، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات : إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً ، وذلك هو الحياة مع اليقظة ، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً ، وذلك بالنوم ، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت ، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام ، والنوم انقطاع ناقص ، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين ، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه ، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك .
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها و } يتوفى { التي لم تمت في منامها } أي يتوفاها وقت النوم { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } أي وقت موتها والمرسلة نفس التمييز تبقى بدونها نفس الحياة بخلاف العكس { إن في ذلك } المذكور { لآيات } دلالات . { لقوم يتفكرون } فيعلمون أن القادر على ذلك ، قادر على البعث ، وقريش لم يتفكروا في ذلك .