في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ بِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَلَا بِٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ يَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لَوۡلَآ أَنتُمۡ لَكُنَّا مُؤۡمِنِينَ} (31)

28

( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . .

فهو العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره . لا القرآن ، ولا الكتب التي سبقته ، والتي تدل على صدقه . فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد . ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر ، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت . فهو العمد إذن وسبق الإصرار !

عندئذ يجبههم بمشهدهم يوم القيامة ، وفيه جزاء هذا الإصرار :

( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، يرجع بعضهم إلى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين ! قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى ، بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين ! وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ؛ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

ذلك كان قولهم في الدنيا : ( لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . فلو ترى قولهم في موقف آخر . لو ترى هؤلاء الظالمين وهم( موقوفون )على غير إرادة منهم ولا اختيار ؛ إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء ( عند ربهم ) . . ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه . ثم ها هم أولاء موقوفون عنده ! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضاً ، ويؤنب بعضهم بعضاً ، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض : ( يرجع بعضهم إلى بعض القول ) . . فماذا يرجعون من القول ?

( يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين ) . .

فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة ، وما يتوقعون بعدها من البلاء ! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم ؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة . كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام ، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم ، والكرامة التي منحها إياهم ، والإدراك الذي أنعم به عليهم . أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة ، وواجهوا العذاب الأليم ، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين ! ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) !

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ بِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَلَا بِٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ يَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لَوۡلَآ أَنتُمۡ لَكُنَّا مُؤۡمِنِينَ} (31)

قوله تعالى : " وقال الذين كفروا " يريد كفار قريش . " لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه " قال سعيد عن قتادة : " ولا بالذي بين يديه " من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وقيل من الآخرة . وقال ابن جريج : قائل ذلك أبو جهل بن هشام . وقيل : إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه ، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع ، وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم ، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم . ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال " ولو ترى " يا محمد " إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول " أي محبوسون في موقف الحساب ، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين . وجواب " لو " محذوف ، أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا . ثم ذكر أي شيء يرجع من القول بينهم قال : " يقول الذين استضعفوا " في الدنيا من الكافرين " للذين استكبروا " وهم القادة والرؤساء " لولا أنتم لكنا مؤمنين " أي أنتم أغويتمونا وأضللتمونا . واللغة الفصيحة " لولا أنتم " ومن العرب من يقول " لولاكم " حكاها سيبويه ، تكون " لولا " تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره . ومحمد بن يزيد يقول : لا يجوز " لولاكم " لأن المضمر عقيب المظهر ، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤۡمِنَ بِهَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ وَلَا بِٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ يَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لَوۡلَآ أَنتُمۡ لَكُنَّا مُؤۡمِنِينَ} (31)

ولما دل سبحانه بملازمتهم للاستهزاء بهذا الإنذار على أنهم غير منفكين عن مذاهب الكفار ، ذكر تصريحهم بذلك وحالهم في بعض الأوقات المنطبقة عليها الآية السالفة في قوله : { وقال الذين كفروا } حيث عبر بالموصول وصلته في موضع الضمير ، واكتفى بالماضي هنا لصراحته {[56915]}في المقصود وكفايته في الحكم بالكفر ، فقالوا مؤكدين قطعاً للأطماع عن دعائهم : { لن نؤمن }{[56916]} أي نصدق أبداً{[56917]} ، وصرحوا بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة فقالوا : { بهذا القرآن } أي وإن جمع جميع{[56918]} الحكم والمقاصد المضمنة{[56919]} لبقية الكتب { ولا بالذي بين يديه } أي قبله من الكتب : التوراة والإنجيل وغيرهما . بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا ، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم ، فأغضبهم ذلك فقالوه{[56920]} : { ولو } أي والحال أنك { ترى } أي يوجد منك رؤية لحالهم { إذ } هم - هكذا كان{[56921]} الأصل ، ولكن أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال : { الظالمون } أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل ، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه ، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم ، والنقل بهذا القرآن المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه ، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق { موقوفون } أي بعد البعث بما يوقفهم من قدرته بأيدي جنوده أو بغيرها{[56922]} بأيسر أمر منه سبحانه قهراً لهم وكرهاً منهم : { عند ربهم } أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم { يرجع بعضهم } أي على وجه الخصام عداوة . و{[56923]} كان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله ، قال القشيري : ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لاعتبروا ، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً { إلى بعض القول{[56924]} } أي {[56925]}بالملاومة والمباكتة{[56926]} والمخاصمة ، لرأيت{[56927]} أمراً فظيعاً منكراً هائلاً شنيعاً مقلقاً وجيعاً{[56928]} يسرك منظره ، ويعجبك منهم أثره ومخبره ، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حيث لا ينفعهم شيء من ذلك .

ولما كان هذا مجملاً ، فسره بقوله على سبيل الاستئناف : { يقول الذين استضعفوا } أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة{[56929]} على سبيل اللوم والتأنيب { للذين استكبروا } أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون : { لولا أنتم } أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم { لكنا مؤمنين * } أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل .


[56915]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56916]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56917]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بدا.
[56918]:سقط من ظ.
[56919]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المتضمنة.
[56920]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: فقالوا.
[56921]:سقط من ظ وم.
[56922]:زيد ما بين الحاجزين من ظ وم ومد.
[56923]:زيد من مد.
[56924]:ليس في الأصل فقط.
[56925]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالملازمة والمباكة.
[56926]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالملازمة والمباكة.
[56927]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أرأيت.
[56928]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: وجمعيا.
[56929]:في ظ وم ومد: الحال.