ونعود بعد تسجيل هذه الومضة إلى سياق السورة . . فنجده يؤكد في الآية الثالثة إيحاء الآيتين الأولى والثانية ؛ فيذكر الناس بنعمة الله عليهم ؛ وهو وحده الخالق وهو وحده الرازق . الذي لا إله إلا هو ؛ ويعجب كيف يصرفون عن هذا الحق الواضح المبين :
( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم . هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ? لا إله إلا هو . فأنى تؤفكون ? ) . .
ونعمة الله على الناس لا تتطلب إلا مجرد الذكر ؛ فإذا هي واضحة بينة يرونها ويحسونها ويلمسونها ، ولكنهم ينسون فلا يذكرون .
وحولهم السماء والأرض تفيضان عليهم بالنعم ، وتفيضان عليهم بالرزق ؛ وفي كل خطوة ، وفي كل لحظة فيض ينسكب من خيرات الله ونعمه من السماء والأرض . يفيضها الخالق على خلقه . فهل من خالق غيره يرزقهم بما في أيديهم من هذا الفيض العميم ? إنهم لا يملكون أن يقولوا هذا ، وما كانوا يدعونه وهم في أغلظ شركهم وأضله . فإذا لم يكن هناك خالق رازق غير الله ، فما لهم لا يذكرون ولا يشكرون ? وما لهم ينصرفون عن حمد الله والتوجه إليه وحده بالحمد والابتهال ? إنه ( لا إله إلا هو )فكيف يصرفون عن الإيمان بهذا الحق الذي لا مراء فيه . . ( فأنى تؤفكون ? ) . . وإنه لعجيب أن ينصرف منصرف عن مثل هذا الحق الذي يواجههم به ما بين أيديهم من الرزق وإنه لعجيب أن ينصرف عن حمد الله وشكره من لا يجد مفراً من الاعتراف بذلك الحق المبين !
هذه الإيقاعات الثلاثة القوية العميقة هي المقطع الأول في السورة . وفي كل منها صورة تخلق الإنسان خلقاً جديداً حين تستقر في ضميره على حقيقتها العميقة . وهي في مجموعها متكاملة متناسقة في شتى الاتجاهات
{ 3 - 4 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }
يأمر تعالى ، جميع الناس أن يذكروا نعمته عليهم ، وهذا شامل لذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح انقيادا ، فإن ذكر نعمه تعالى داع لشكره ، ثم نبههم على أصول النعم ، وهي الخلق والرزق ، فقال : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }
ولما كان من المعلوم أنه ليس أحد يخلق ويرزق إلا اللّه ، نتج من ذلك ، أن كان ذلك دليلا على ألوهيته وعبوديته ، ولهذا قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : تصرفون عن عبادة الخالق الرازق لعبادة المخلوق المرزوق .
ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده . أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه ، فإن الذكر يقود إلى الشكر ، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود ، فقال : { يا أيها الناس } أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة { اذكروا } بالقلب واللسان { نعمت الله } أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه ، ولما كانت نعمه عامة غامرة من كل جانب قال : { عليكم } أي في دفع ما دفع من المحن ، وصنع ما صنع من المنن ، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه ، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم ، وحفظهم من جميع الأمم ، وتشريفهم بالبيت ، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس .
ولما أمر بذكر نعمته ، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته ، فقال منبهاً لمن غفل ، وموبخاً لمن جحد ، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم ، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول : { هل } ولما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده ب { من } فقال : { من خالق } أي للنعم وغيرها ، ولما كانت { من } للتأكيد ، فكان { خالق } في موضع رفع ، قرأ الجمهور قوله : { غير الله } بالرفع ، وجره حمزة والكسائي على اللفظ ، وعبر بالجلالة إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال .
ولما كان الجواب قطعاً : لا ، بل هو الخالق وحده ، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول : { يرزقكم } أي وحده . ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال : { من السماء والأرض } بالمطر والنبات وغيرهما . ولما بين أنه الرزاق وحده انقطع أمل كل أحد من غيره حتى من نفسه فحصل الإخلاص فتعين أنه سبحانه الإله وحده فقال : { لا إله إلا هو } فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال : { فأنى } أي فمن أيّ وجه وكيف { تؤفكون * } أي تصرفون وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.