ثم إنه إذ يجعل حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو الحكم الواحد الفصل . يقيم هذا على حقيقة أن مقاليد السماوات والأرض كلها إليه بعد ما فطرها أول مرة ، وشرع لها ناموسها الذي يدبرها : ( له مقاليد السماوات والأرض ) . . وهم بعض ما في السماوات والأرض ، فمقاليدهم إليه .
ثم إنه هو الذي يتولى أمر رزقهم قبضاً وبسطاً - فيما يتولى من مقاليد السماوات والأرض - : ( يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) . . فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم . فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه ? وإنما يتجه الناس إلى الرازق الكافل المتصرف في الأرزاق . الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير : ( إنه بكل شيء عليم ) . . والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل ، وحكمه الفصل . .
وهكذا تتساوق المعاني وتتناسق بهذه الدقة الخفية اللطيفة العجيبة ؛ لتوقع على القلب البشري دقة بعد دقة ، حتى يتكامل فيها لحن متناسق عميق .
وقوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : له ملك السماوات والأرض ، وبيده مفاتيح الرحمة والأرزاق ، والنعم الظاهرة والباطنة . فكل الخلق مفتقرون إلى اللّه ، في جلب مصالحهم ، ودفع المضار عنهم ، في كل الأحوال ، ليس بيد أحد من الأمر شيء .
واللّه تعالى هو المعطي المانع ، الضار النافع ، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يدفع الشر إلا هو ، و { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ }
ولهذا قال هنا : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ } أي : يوسعه ويعطيه من أصناف الرزق ما شاء ، { وَيَقْدِرُ } أي : يضيق على من يشاء ، حتى يكون بقدر حاجته ، لا يزيد عنها ، وكل هذا تابع لعلمه وحكمته ، فلهذا قال : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم أحوال عباده ، فيعطي كلا ما يليق بحكمته وتقتضيه مشيئته .
ولما قرر أمر الوحي بما ثبت به من الإعجاز ، وأراهم الآيات في الآفاق ، بأن له ما في الوجود ، وأنه هو الذي فطره ، وكان ربما كان للإنسان شيء ولم يكن كامل التصرف فيه بأن يكون مفاتيح خزائنه مع غيره من شريك أو غيره ، وكان ربما اخترع الإنسان بناء وكان لغيره ، أخبر إكمالاً لتنزيه الآية السالفة وشرحاً له أنه تعالى ليس كمثله شيء وليس كغيره في هذا أيضاً بل كما أن له ما في الخافقين وهو مخترعهما فله مفاتيح خزائنهما ، فقال : { له } أي وحده { مقاليد السماوات والأرض } أي خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الأمطار والأنبات وغيرهما وقد ثبت أنه ابتدعهما ، وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره ، قال القشيري : والمفاتيح الخزائن وخزائنه مقدوراته - انتهى . ولما كان قد حصر الأمر فيه دل عليه بقوله : { يبسط الرزق } أي الذي فيهما ولا مانع منه إلا قدرته { لمن يشاء } أي أن يبسطه له { ويقدر } أي يضيق ويقبض على من يشاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب وفاوت في الأفراد ، بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم ، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده غن غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له ، فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة{ استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال }[ الآية 12 : نوح ] { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار }[ الطلاق : 11 ] { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }[ الأعراف : 96 ] { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم }{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل }[ الآية 66 : المائدة ] .
ولما كان كأنه قيل : لم فعل ذلك ؟ علله بقوله مؤكداً لأن أعمال غالب الناس في المعاصي عمل من يظن أنه سبحانه يخفى عليه عمله : { إنه بكل شيء عليم * } فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة ، فلو أنه وسع العرب وقواهم ثم أباحهم ملك أهل فارس والروم لقبل بقوتهم ومكنتهم ، وله في كل شيء دق أو جل من الحكم ما يعجز عن إدراك لطائفه أفاضل الأمم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.