( والله الذي أرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت ، فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور ) .
وهذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن . مشهد الرياح ، تثير السحب ؛ تثيرها من البحار ، فالرياح الساخنة هي المثيرة للبخار ؛ والرياح الباردة هي المكثفة له حتى يصير سحاباً ؛ ثم يسوق الله هذا السحاب بالتيارات الهوائية في طبقات الجو المختلفة ، فتذهب يميناً وشمالاً إلى حيث يريد الله لها أن تذهب ، وإلى حيث يسخرها ويسخر مثيراتها من الرياح والتيارات ، حتى تصل إلى حيث يريد لها أن تصل . . إلى بلد ميت . . مقدر في علم الله أن تدب فيه الحياة بهذا السحاب . والماء حياة كل شيء في هذه الأرض . ( فأحيينا به الأرض بعد موتها ) . . وتتم الخارقة التي تحدث في كل لحظة والناس في غفلة عن العجب العاجب فيها . وهم مع وقوع هذه الخارقة في كل لحظة يستبعدون النشور في الآخرة . وهو يقع بين أيديهم في الدنيا . . ( كذلك النشور ) . . في بساطة ويسر ، وبلا تعقيد ولا جدل بعيد !
هذا المشهد يتردد في معرض دلائل الإيمان الكونية في القرآن لأنه دليل واقعي ملموس ، لا سبيل إلى المكابرة فيه . ولأنه من جانب آخر يهز القلوب حقاً حين تتملاه وهي يقظى ؛ ويلمس المشاعر لمساً موحياً حين تتجه إلى تأمله . وهو مشهد بهيج جميل مثير . وبخاصة في الصحراء حيث يمر عليها الإنسان اليوم وهي محل جدب جرداء . ثم يمر عليها غداً وهي ممرعة خضراء من آثار الماء . والقرآن يتخذ موحياته من مألوف البشر المتاح لهم ، مما يمرون عليه غافلين . وهو معجز معجب حين تتملاه البصائر والعيون .
{ 9 } { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ }
يخبر تعالى عن كمال اقتداره ، وسعة جوده ، وأنه { أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ } فأنزله اللّه عليها { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
فحييت البلاد والعباد ، وارتزقت الحيوانات ، ورتعت في تلك الخيرات ، { كَذَلِكَ } الذي أحيا الأرض بعد موتها ، ينشر الله الأموات من قبورهم ، بعدما مزقهم البلى ، فيسوق إليهم مطرا ، كما ساقه إلى الأرض الميتة ، فينزله عليهم فتحيا الأجساد والأرواح من القبور ، ويأتون للقيام بين يدي الله ليحكم بينهم ، ويفصل بحكمه العدل .
قوله تعالى : " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت " ميّت وميْت واحد ، وكذا ميتة وميتة ، هذا قول الحذاق من النحويين . وقال محمد بن يزيد : هذا قول البصريين ، ولم يستثن أحدا ، واستدل على ذلك بدلائل قاطعة . وأنشد :
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ *** إنما الميت ميّت الأحياء
إنما المَيْت من يعيش كئيبا *** كاسفا باله قليل الرجاء
قال : فهل ترى بين ميت وميت فرقا ، وأنشد :
هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ بنو يَسَر *** سُوَاسُ مكرُمة أبناءُ أيْسَارِ
قال : فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد ، وكذا ميّت وميْت ، وسيد وسيد . قال : " فسقناه " بعد أن قال : " والله الذي أرسل الرياح " وهو من باب تلوين الخطاب . وقال ابن عبيدة : سبيله " فتسوقه " ، لأنه قال : " فتثير سحابا " . الزمخشري : فإن قلت : لم جاء " فتثير " على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟ قلت : لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، أو تهم المخاطب أو غير ذلك ؛ كما قال تأبط شرا :
بأني قد لقيت الغُولَ تَهْوِي *** بسَهْب كالصحيفةِ صَحْصَحَانِ{[13109]}
فأضربها بلا دهش فخرت *** صريعاً لليدين وللجرانِ{[13110]}
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب . من جرأته على كل هول ، وثباته عند كل شدة وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : " فسقنا " و " أحيينا " معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه . وقراءة العامة " الرياح " . وقرأ ابن محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي " الريح " توحيدا . وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى{[13111]} .
" كذلك النشور " أي كذلك تحيون بعدما متم ، من نشر الإنسان نشورا . فالكاف في محل الرفع ، أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات . وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : ( أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا ) قلت : نعم يا رسول الله . قال ( فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه ) وقد ذكرنا هذا الخبر في " الأعراف " {[13112]} وغيرها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.