ثم قال -مستدلا بدليل عقلي على علمه- : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه ، كيف لا يعلمه ؟ ! { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره ، حتى أدرك السرائر والضمائر ، والخبايا [ والخفايا والغيوب ] ، وهو الذي { يعلم السر وأخفى } ومن معاني اللطيف ، أنه الذي يلطف بعبده ووليه ، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر ، ويعصمه من الشر ، من حيث لا يحتسب ، ويرقيه إلى أعلى المراتب ، بأسباب لا تكون من [ العبد ] على بال ، حتى إنه يذيقه المكاره ، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة ، والمقامات النبيلة .
ثم قال : " ألا يعلم من خلق " يعني ألا يعلم السر من خلق السر . يقول أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد . وقال أهل المعاني : إن شئت جعلت " من " اسما للخالق جل وعز ، ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه . وإن شئت جعلته اسما للمخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق . ولا بد أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه . قال ابن المسيب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل : أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغَيْضَة{[15193]} بصوت عظيم : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم ، منها " العليم " ، ومعناه تعميم جميع المعلومات . ومنها " الخبير " ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون . ومنها " الحكيم " ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف . ومنها " الشهيد " ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء . ومنها الحافظ ، ويختص بأنه لا ينسى . ومنها " المحصي " ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم ، مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة . وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ! وقد قال : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
{ ألا يعلم من خلق } هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء ، لأن الخالق يعلم مخلوقاته ، ويحتمل أن يكون ( من خلق ) فاعلا يراد به الخالق ، والمفعول محذوف تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، أو يكون ( من خلق ) مفعولا ، والفاعل مضمر تقديره : ألا يعلم الله من خلق ، والأول أرجح ، لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل ، والمعنى الأول يعم من يعقل ومن لا يعقل .
ثم دل على ذلك بقوله معجباً ممن يتوقف فيه{[66912]} أدنى توقف ، ومنكراً عليهم بإثبات العلم ونفي ضده على أبلغ وجه : { ألا يعلم } أي وكل ما يمكن أن يعلم ، وحذف المفعول للتعميم{[66913]} ، ثم ذكر الفاعل واصفاً له بما يقرب المخبر به{[66914]} للإفهام فقال : { من خلق } أي الذي أوجد الخلق من القلوب الحاوية للأسرار والأبدان وغير ذلك ، وطبع في كل شيء من ذلك ما طبع ، مما قدره بعلمه وأتقنه بحكمته ، فإن كل صانع أدرى بما صنعه . ويجوز - وهو أحسن - أن يكون " من " مفعولاً والفاعل مستتراً ، أي {[66915]}ألا يعلم{[66916]} الله مخلوقه على الإطلاق ، وله صفتا{[66917]} اللطف والخبر اللتان شأنهما إدراك البواطن إدراكاً لا يكون مثله ، لأن الغرض إثبات العلم لما أخفوه لظنهم أنهم إذا أسروا يخفى ، لا إثبات مطلق العلم فإنهم لم ينكروه { وهو } أي والحال أنه هو { اللطيف{[66918]} } أي{[66919]} الذي يعلم ما بثه {[66920]}في القلوب{[66921]} لأنه يصل إلى الأشياء بأضدادها ، فكيف بغير ذلك{[66922]} { الخبير * } أي بالغ العلم بالظواهر والبواطن ، فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء ، وهو أعظم تهديد يكون ؛ فإن من علم{[66923]} أن من يعصيه عالم به ، وهو قادر عليه ، لا يعصيه أبداً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.