تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (14)

الآية 14 وقوله تعالى : { ألا يعلم من خلق } تأويله عند أهل الإسلام : { ألا يعلم من خلق } مما أسروا ، وجهروا ؟ و{ من } راجع إلى الله تعالى دون الخلق ؛ كأنه يقول : ألا يعلم الخالق { وهو اللطيف الخبير } .

وفيه إثبات خلق الأفعال والأقوال وخلق الشر ، فيكون حجة لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد .

وقال جعفر بن حرب وأبو بكر الأصم : إن حرف { من } لا يرجع إلى الله تعالى ، وإنما يرجع إلى الخلق ، فكأنه يقول : ألا يعلم الله من خلق ، على إضمار اسم الله تعالى ؟ فاحتالا بهذه الحيلة لنفي الخلق عن الأفعال ، لأن حرف { من } يرجع إلى الأنفس دون الأفعال والأقوال .

وذلك فاسد ، لأن الآية في موضع الوعيد . ولو كان قوله : { من خلق } راجعا إلى الأنفس ، لزال موضع الوعيد ؛ إذ ليس في خلق الأنفس وعلم الله بها إثبات العلم بأفعال وجدت منهم ، ولا في خلق الأنفس إيجاب الوعيد بالأفعال .

ولأنه لو لم يكن الله تعالى خالقا لما يجهر به العبد ولما يخفيه ، لم يكن ليحتج به على عمله ، إذ قد يجوز جواز الجهل لغير الذي يفعله ، فلا يجوز أن يحتج عليهم بفعل غيره .

ولأنه ليس في إثبات العلم بخلق الأنفس ، إثبات العلم بما أسروا وجهروا ، كما لم يكن عند المعتزلة في إيجاب الخلق لنفس الإنسان ، إيجاب الخلق لأفعالهم .

ومعلوم بأن الآية في تحقيق العلم بما أسروا وجهروا ، لأن قوله : { ألا يعلم من خلق } مذكور على إثر قوله : { وأسرّوا قولكم أو اجهروا به } وقوله : { إنه عليم بذات الصدور } أي عليم بما تسرون وما تجهرون ، فثبت أن الخلق راجع إلى ما أسروا وجهروا .

ثم إن الناس على اختلافهم ، اتفقوا أن كل واقع بالطبع والضرورة ، مخلوق الله تعالى . وإنما اختلفوا في الواقع بكسب العبد ؛ فمنهم من أثبت فيه الخلق ، وهو قول أهل الهدى ، ومنهم من أبى القول بخلقه .

ثم المرء لا يتهيأ له استعمال اليد إلا في الوجه{[21683]} الذي جعل في طبع اليد احتمال ذلك المعنى{[21684]} ولا يتهيأ له أن يستعملها{[21685]} في الوجه الذي لم يجعل في طبعها احتمال ذلك ؛ لأنه لو أراد أن يرى بيديه ، أو يسمع بهما ، لم يملك ذلك .

فثبت أنه ملك استعمالها في القبض والأخذ ، والتسليم بما جعل في طبعها استعمال ذلك ، وإذا كان كذلك ، فقد ثبت الخلق في ما يعمل بيديه ، وفي ما يرى بعينيه ، ويسمع بأذنيه ، والله الموفق .

وقوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } في تدبيره ؛ إذ دبر لسان الإنسان على ما إذا استعمله يخرج منه الكلام . ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح النطق لم يقف عليه .

ودبر قلبه على أن يصور ما وقع فيه من الخيال ، فيؤديه بلسانه ، ودبره على وجه يصلح أن يوعى الأسرار والودائع ، من وجه لو أراد الخلائق أن يتعرفوا الوجه الذي صلح القلب أن يكون مصورا وحافظا ومعدنا للأسرار لم يقفوا عليه .

وقيل : { اللطيف } هو الذي لا يعزب عنه علم ما جل ودق . وقيل : { اللطيف } بعباده في الإحسان إليهم والإنعام عليهم { الخبير } بما فيه مصالحهم .


[21683]:في الأصل و م: العمل
[21684]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: العمل
[21685]:في الأصل و م: يستعمله.