قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } . في «مَنْ خَلَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه فاعل «يَعْلَمُ » والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ{[57406]} .
والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و «مَنْ » مفعول به ، أي : ألا يعلم الله من خلقه .
قال أبو حيَّان{[57407]} : والظَّاهر أن «مَنْ » مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون «مَنْ » فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم ، وجهركُم ، وهو استفهام معناه الإنكار " .
قال شهاب الدينِ{[57408]} : «وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر ، يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال{[57409]} : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن " مَنْ " في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ، ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق ؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت " مَا " في موضع " مَنْ " لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم ، أسروها أو أظهروها ، خيراً كانت أو شراً ، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون " مَا " في موضع نصبٍ ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم ، إذا جعلت " ما " في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ ، وقوله : { بِذَاتِ الصدور } يمنع من ذلك » انتهى .
قال شهاب الدين{[57410]} : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه .
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره{[57411]} : ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر «مَنْ خَلَقَ » الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون «مَنْ خَلقَ » منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في «ألاَ يَعْلَمُ » مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلاَّ جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع ؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق ؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم ؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير ، لم يكن معنى صحيحاً ؛ لأن «ألاَ يَعْلَمُ » معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .
معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد ؟ .
قال أهل المعاني{[57412]} : إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه ، وما يخلقه .
قال ابن المسيِّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريحُ ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير }{[57413]} ؟ .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم ، منها «العَلِيمُ » ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها «الخَبِيرُ » ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ومنها «الحَكِيمُ » ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها «الشَّهِيدُ » ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر ، ومعناه : ألاَّ يغيب عنه شيء ، ومنها «الحافظ » ويختص بأنه لا ينسى شيئاً ، ومنها «المُحصِي » ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ؟ وقد قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } .
لما قال تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء ، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية .
قال ابن الخطيب{[57414]} : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، وهو غير عالم ، لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ والبطيئة ، إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة وسكوناً ، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلومٍ ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه ؛ ولأن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله ، لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً ، وبما في الصدور .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد ؟ .
فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر .
قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } .
وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب ، وإلا لكان ذكر الخبير يعد تكراراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.