اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (14)

قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } . في «مَنْ خَلَقَ » وجهان :

أحدهما : أنه فاعل «يَعْلَمُ » والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ{[57406]} .

والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و «مَنْ » مفعول به ، أي : ألا يعلم الله من خلقه .

قال أبو حيَّان{[57407]} : والظَّاهر أن «مَنْ » مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون «مَنْ » فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم ، وجهركُم ، وهو استفهام معناه الإنكار " .

قال شهاب الدينِ{[57408]} : «وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر ، يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال{[57409]} : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن " مَنْ " في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ، ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق ؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت " مَا " في موضع " مَنْ " لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم ، أسروها أو أظهروها ، خيراً كانت أو شراً ، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون " مَا " في موضع نصبٍ ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم ، إذا جعلت " ما " في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ ، وقوله : { بِذَاتِ الصدور } يمنع من ذلك » انتهى .

قال شهاب الدين{[57410]} : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه .

قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره{[57411]} : ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر «مَنْ خَلَقَ » الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون «مَنْ خَلقَ » منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في «ألاَ يَعْلَمُ » مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلاَّ جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع ؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق ؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم ؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير ، لم يكن معنى صحيحاً ؛ لأن «ألاَ يَعْلَمُ » معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .

فصل في معنى الآية

معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد ؟ .

قال أهل المعاني{[57412]} : إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه ، وما يخلقه .

قال ابن المسيِّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريحُ ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير }{[57413]} ؟ .

وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم ، منها «العَلِيمُ » ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها «الخَبِيرُ » ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ومنها «الحَكِيمُ » ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها «الشَّهِيدُ » ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر ، ومعناه : ألاَّ يغيب عنه شيء ، ومنها «الحافظ » ويختص بأنه لا ينسى شيئاً ، ومنها «المُحصِي » ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ؟ وقد قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } .

فصل

لما قال تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء ، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية .

قال ابن الخطيب{[57414]} : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، وهو غير عالم ، لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ والبطيئة ، إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة وسكوناً ، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها ، وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلومٍ ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه ؛ ولأن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله ، لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً ، وبما في الصدور .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد ؟ .

فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر .

قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } .

قيل : اللطيف : العالم .

وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب ، وإلا لكان ذكر الخبير يعد تكراراً .


[57406]:ينظر: الكشاف 4/579.
[57407]:ينظر: البحر المحيط 8/295.
[57408]:ينظر الدر المصون 6/344.
[57409]:ينظر المشكل 2/746.
[57410]:ينظر: الدر المصون 6/344.
[57411]:ينظر: الكشاف 4/579.
[57412]:ينظر:القرطبي 18/140.
[57413]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/140).
[57414]:ينظر: الفخر الرازي 30/59.