الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ} (14)

قوله : { مَنْ خَلَقَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فاعلُ " يَعْلَمُ " والمفعول محذوفٌ تقديرُه : ألا يعلم الخالقُ خَلْقَه ، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى ، و " مَنْ " مفعولٌ به أي : ألا يعلمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَه . قال الشيخ : " والظاهر أن " مَنْ " مفعولٌ ، والمعنى : أينتفي علمُه بمَنْ خَلَقَه ، وهو الذي لَطَفَ عِلْمُه ودَقَّ " . ثم قال : " وأجاز بعضُ النَّحْويين أَنْ يكون " مَنْ " فاعلاً والمفعولُ محذوفٌ ، كأنه قال : ألا يعلَم الخالقُ سِرَّكم وجهرَكم ، وهو استفهامٌ ، معناه الإِنكار " . قلت : وهذا الوجهُ الذي جَعَلَه هو الظاهر يَعْزِيه الناسُ لأهلِ الزَّيْغ والبِدَعِ الدافِعين لعمومِ الخَلْق لله تعالى .

وقد أَطْنَبَ مكي في ذلك ، وأنكر على القائلِ به ، ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال : " وقد قال بعضُ أهلِ الزَّيْغِ : إن " مَنْ " في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين ، لَيُخْرَجَ الكلامُ عن عمومِه ويُدْفَعَ عمومُ الخَلْقِ عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلمُ ما خلق ، لأنه إنما تقدَّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ " ما " ولو أَتَتْ " ما " في موضعِ " مَنْ " لكان فيه أيضاً بيانُ العموم : أنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ ، أَسَرُّوها أو أظهرُها ، خيراً كانَتْ أو شرّاً ، ويُقَوِّي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، ولم يقلْ : عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون " ما " في موضع نصب ، وإنما يُخْرِجُ الآيةَ مِنْ هذا العموم إذا جَعَلْتَ " مَنْ " في موضعِ نصبٍ اسماً للأُناسِ المخاطبين قَبْلَ هذه الآيةِ ، وقوله : " بذات الصدورِ " يمنعُ مِنْ ذلك " انتهى . ولا أَدْري كيف يَلْزَمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه ؟ وقد قال بهذا القولِ أعني الإِعرابَ الثاني جماعةٌ من المحققين ، ولم يُبالوا بما ذكرَه لعَدَمِ إفهامِ الآية إياه .

وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكرَه : " ثم أنكر ألاَّ يُحيط علماً بالمُضْمَر والمُسَرِّ والمُجْهَرِ مَنْ خلق الأشياء ، وحالُه أنه/ اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظَهَر وما بَطَن . ويجوز أَنْ يكون " مَنْ خَلَقَ " منصوباً بمعنى : ألا يعلَمُ مَخْلوقَه ، وهذه حالُه " ثم قال : " فإنْ قلتَ : قَدَّرْتَ في " ألا يَعْلَمُ " مفعولاً على معنى : ألا يعلمُ ذلك المذكورَ مِمَّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان مَنْ خلق ؟ فهلا جَعَلْتَه مثلَ قولِهم : " هو يُعْطي ويمنع " ، وهلا كان المعنى : ألا يكونُ عالماً مَنْ هو خالقٌ ، لأن الخالقَ لا يَصِحُّ إلاَّ مع العِلْم ؟ قلت : أبَتْ ذلك الحالُ التي هي قولُه : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأنَّك لو قلتَ : ألا يكون عالماً مَنْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ ، لم يكن معنى صحيحاً ؛ لأنَّ " ألا يَعْلَمُ " معتمِدٌ على الحالِ ، والشيءُ لا يُوَقَّتُ بنفسِهِ ، فلا يقال : " ألا يعلَمُ وهو عالمٌ ، ولكن ألا يعلم كذا ، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ " .