ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات ؛ وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم :
( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) . .
فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا ، وأعمارها وأحداثها ، ومتاعها ، وأشياؤها ، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم . . عشية أو ضحاها !
وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها . . تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .
هذه هي : قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة . . أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة ? ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى !
ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى !
46- كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها .
أي : إن الساعة قادمة ، وقدومها مؤكد ، وكل آت قريب ، وحين يشاهدونها ويرون أهوالها ، يتيقنون أن المدة التي مكثوها في قبورهم لم تكن إلا عشية يوم أو ضحاه .
والعشية : من الزوال إلى الغروب .
والضحى : من طلوع الشمس إلى الزوال .
والمراد أنهم يستقصرون مدة المكث في الدنيا ، حتى كأنها كانت عشية من يوم أو ضحاه .
قال تعالى : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . . . ( الأحقاف : 35 ) .
وتنتهي الحياة الدنيا قصيرة جدا ، حتى كأنها عشية يوم أو ضحاه ، أفمن أجل وقت قصير يضحّي الناس بالقيامة ، أي بالآخرة وما فيها من نعيم أبدي في الجنة ، أو جحيم أبدي في النار ؟
i ورد هذا المعنى في سورة الزمر في الآية 68 حيث يقول سبحانه { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } .
رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ( 3405 ) وفي الدعوات ( 6336 ) وأحمد في مسنده ( 3892 ) من حديث عبد الله بلفظ :
( يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر . . . ) الحديث .
iii طوى : علم للوادي ، وهو واد بأسفل جبل طور سيناء .
iv إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه :
رواه البخاري في بدء الخلق ( 3208 ) وفي أحاديث الأنبياء ( 3332 ) وفي القدر ( 6594 ) ومسلم في كتاب القدر ( 2643 ) والترمذي في القبر ( 2137 ) وابن ماجة في المقدمة ( 76 ) وأحمد في مسنده ( 3617 ) من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ : ( إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يوما ثم يكون . . . ) الحديث .
v تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده ، دار ومطابع الشعب ص 11 وقد ورد هذا المعنى في تفسير القرطبي ، وغيره من كتب التفسير .
رواه الترمذي في صفة القيامة والرقائق ( 2450 ) من حديث أبي هريرة بلفظ : ( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله . . . ) الحديث .
رواه أحمد في مسنده ( 12281 ) من حديث أنس بن مالك بلفظ : متى الساعة ؟ فقال رسول الله : و ( ما أعددت لها ) ؟ فقال الأعرابي . . . ) الحديث .
viii ما المسئول عنها بأعلم من السائل :
رواه البخاري في الإيمان ( 50 ) ، وفي تفسير القرآن ( 4777 ) ، ومسلم في الإيمان ( 8 ، 9 ) ، والترمذي في الإيمان ( 2610 ) ، والنسائي في الإيمان ( 4990 ، 4991 ) ، وأبو داود في السنة ( 4695 ) ، وابن ماجة في المقدمة ( 63 ، 64 ) ، وأحمد ( 369 ، 376 ، 5822 ، 6121 ) من حديث أبي هريرة ، ومن حديث عمر بن الخطاب . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
رواه أحمد في مسنده ( 13924 ، 14022 ، 14566 ) والنسائي في صلاة العيدين ( 1578 ) والدارمي في المقدمة ( 206 ) وابن ماجة في المقدمة ( 45 ) من حديث جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : ( أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وإن أفضل الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) . ثم يرفع صوته وتحمر وجنتاه ويشتد غضبه إذا ذكر الساعة كأنه منذر جيش ، قال : ثم يقول : ( أتتكم الساعة ، بعثت أنا والساعة هكذا –وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى- صبحتكم الساعة ومستكم ، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ ) . والضياع يعني ولده المساكين .
ورواه أحمد في مسنده ( 22438 ) من حديث بريدة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني ) .
{ كأنهم } يعني كفار قريش ، { يوم يرونها } يعاينون يوم القيامة ، { لم يلبثوا } في الدنيا ، وقيل : في قبورهم ، { إلا عشيةً أو ضحاها } قال الفراء : ليس للعشية ضحى ، إنما الضحى اسم لصدر النهار ، ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن يقولوا : آتيك العشية أو غداتها ، إنما معناه : آخر يوم أو أوله ، نظيره : قوله { يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار }( الأحقاف- 35 ) .
ولما أثبت أنه منذر ، وكان أخوف الإنذار الإسراع ، قال مستأنفاً محقراً لهم الدنيا مزهداً لهم فيها : { كأنهم } أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها { يوم يرونها } أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي{[71566]} منه { لم يلبثوا } أي في الدنيا و{[71567]}في القبور { إلا عشية } أي من الزوال إلى غروب الشمس .
ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال : { أو ضحاها * } أي ضحى عشية من العشايا وهو البكرة{[71568]} إلى الزوال ، والعشية ما بعد ذلك ، أضيف إليها الضحى لأنه من النهار ، ولإضافة تحصل بأدنى ملابسة ، وهي هنا كونهما من نهار واحد ، فالمراد ساعة من نهار أوله أو آخره ، لم يستكملوا نهاراً تاماً ولم يجمعوا بين طرفيه ، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع{[71569]} " وهذا تعبير لنا بما نحسه تقريباً لعقولنا وإن كانت القاعدة أنه لا نسبة لما يتناهى إلى ما لا يتناهى-{[71570]} على أن الكفار أيضاً يستقصرون مدة لبثهم ، فكأنهم أصناف : بعضهم يقول : إن لبثتم إلا عشراً ، وبعضهم يقول : إن لبثتم إلا يوماً ، وبعضهم يتحير فيقول : اسأل العادين ، أو أن تلك أقوالهم ، والحق من ذلك هو-{[71571]} ما أخبر الله به غير مضاف إلى أقوالهم من أن ما مضى لهم في جنب ما يأتي كأنه ساعة من نهار بالنسبة إلى النهار الكامل-{[71572]} كما قال تعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم }[ يونس : 45 ] على أن منهم من يقول ذلك أيضاً كما قال تعالى في سورة المؤمنين حين قال تعالى
{ كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا{[71573]} لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين }[ المؤمنون : 112 – 113 ] وذلك بالنسبة إلى ما كشف لهم عن أنهم يستقبلونه مما{[71574]} لا آخر له أو أنهم لما نزعتهم نفحة إسرافيل عليه الصلاة والسلام بيد القدرة من قبورهم غرقاً نزعاً شديداً فقاموا ورأوا تلك الأهوال وعلموا ما يستقبلونه من الأوجال استقصروا{[71575]} مدة لبثهم قبل ذلك لأن من استلذ شيئاً استقصر مدته وهم استلذوا ذلك وإن كان من أمرّ المرّ في جنب لهم عن أنهم{[71576]} لاقوه ، فقد رجع آخرها بالقيامة على أولها ، والتف مفصلها بنزع الأنفس اللوامة على موصلها ، واتصلت بأول ما بعدها من جهة الخشية والتذكر فيا طيب متصلها ، فسبحان من جعله{[71577]} متعانق المقاطع والمطالع ، وأنزله رياضاً محكمة المذاهب والمراجع ، والله{[71578]} سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب{[71579]} .