في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ} (2)

( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) .

وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب ، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود . وفي الآية الخامسة من السورة يجيء : ( خلق السماوات والأرض بالحق ) . فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض ، وأنزل به هذا الكتاب . الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض ؛ والذي ينطق به هذا الكتاب . الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود . .

( فاعبد الله مخلصاً له الدين ) .

والخطاب لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي أنزل إليه الكتاب بالحق . وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة . . عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد .

وتوحيد الله وإخلاص الدين له ، ليس كلمة تقال باللسان ؛ إنما هو منهاج حياة كامل . يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير ؛ وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة .

والقلب الذي يوحد الله ، يدين لله وحده ، ولا يحني هامته لأحد سواه ، ولا يطلب شيئاً من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه . فالله وحده هو القوي عنده ، وهو القاهر فوق عباده . والعباد كلهم ضعاف مهازيل ، لا يملكون له نفعاً ولا ضراً ؛ فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم . وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً . والله وحده هو المانح المانع ، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء .

والقلب الذي يوحد الله ، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ؛ ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد ، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه . ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم ، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة .

والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ؛ ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ؛ ويحس يد الله في كل ما حوله ، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه . ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد ، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله . خالق كل شيء ، ومحيي كل حي . ربه ورب كل شيء وكل حي . .

وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر ، كما تبدو في السلوك والتصرفات . وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً متميزاً . ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان . ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله : وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد ، في كل عصر ، وفي كل بيئة . فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ} (2)

1

المفردات :

مخلصا له الدين : مفردا بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحدا .

التفسير :

2- { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } .

الله تعالى يخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم ويخبر النّاس أجمعين من خلاله ، أنه سبحانه الذي أنزل الكتاب على رسوله بالحق والصدق ، مشتملا على شرائع الإسلام وعباداته ومعاملاته ، وهي شرائع نافعة مفيدة ، ما تمسكت بها أمة إلا صعدت إلى مدارج العلياء ، وما حادت عنها أمة إلا هوت إلى الحضيض ، وقد أمر الله رسوله بإخلاص العبادة لله وحده ، وتجريد العبادة عن كل شريك ، وإخلاص النية لله سبحانه ، فهو أغنى الأغنياء عن الشرك .

وفي الحديث القدسي : " من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه " {[583]} .

وقد كان العرب يتخذون أصناما على شكل تماثيل للملائكة والأنبياء والصالحين ، ويدّعون أن الله أعظم وأكبر من أن يتجهوا إليه بالعبادة مباشرة ، فهو يتقربون إلى تماثيل الأولياء والصالحين ، رجاء أن يشفعوا لهم عند الله ، وأن يكونوا وسطاء عند الله في تقريبهم إليه ، ولذلك تكررت آيات القرآن في نفي الشفاعة عن هذه الأصنام ، وبيان أن الله واحد أحد لا شريك له ، وأن أحدا من الأصنام والأوثان لا يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهو سبحانه يحبط بهذه المعبودات ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، وأن ملكه يشمل السماوات والأرض ، وسهل هين يسير عليه حفظ الكون كله ، فهو قريب من عباده ، ولا يحتاج إلى واسطة أو شريك ، نجد ذلك واضحا في آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم } . ( البقرة : 255 ) .

وروى الحسن ، عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يقبل الله شيئا شورك فيه " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ألا لله الدين الخالص . . . } .


[583]:من عمل عملا أشرك فيه معي غيري رواه مسلم في الزهد (2985) وابن ماجة في الزهد (4202) وأحمد في مسنده (9336) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ} (2)

ولما أخبر أنه من عنده ، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير ، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً ، مبرزاً له في أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه ، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن الحكم الجازم الذي لا مرد له : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { أنزلنا } أي بما لنا من العظمة ، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة ، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له صلى الله عليه وسلم ، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به صلى الله عليه وسلم ، ومن قرب منه ويسره وسهولته لأمته فقال : { إليك } أي خاصة بواسطة الملك ، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك ، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس ، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف { الكتاب } أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي ، والكائن ، متلبساً { بالحق } وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره ، فالواقع تابع لأخباره ، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها ، لا حلية له ولا لباس إلا الحق ، فلا دليل أدل على كونه من عنده من ذلك ، فليتبعوا خبره ، ولينظروا عينه وأثره .

ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد ، ثبت أنه سبحانه الإله وحده ، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيماً لقدرها لأنها المقصود بالذات : { فاعبد الله } أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك { مخلصاً } والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة { له } أي وحده { الدين * } بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء ، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم ، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم ، قال الرازي : قال الجنيد : الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال ، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال ، وهو إفراد الله بالعمل ، وفي الخبر " أنا أغنى الشركاء عن الشرك " .