وفي النشأة الأولى . وفي النشأة الأخرى . يغني الله من يشاء من عباده ويقنيه :
أغنى من عباده من شاء في الدنيا بأنواع الغنى وهي شتى . غنى المال . وغنى الصحة . وغى الذرية . وغنى النفس . وغنى الفكر . وغنى الصلة بالله والزاد الذي ليس مثله زاد .
وأغنى من عباده من شاء في الآخرة من غنى الآخرة !
وأقنى من شاء من عباده . من كل ما يقتنى في الدنيا كذلك وفي الآخرة !
والخلق فقراء ممحلون . لا يغتنون ولا يقتنون إلا من خزائن الله . فهو الذي أغنى . وهو الذي أقنى . وهي لمسة من واقع ما يعرفون وما تتعلق به أنظارهم وقلوبهم هنا وهناك . ليتطلعوا إلى المصدر الوحيد . ويتجهوا إلى الخزائن العامرة وحدها ، وغيرها خواء !
أغنى وأقنى : أغنى من شاء ، وأفقر من شاء ، وأعطاه القنية ، وهي ما يبقى من المال .
48- { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } .
هو سبحانه يغني من يشاء من عباده ، ويفقر من يشاء ، بحسب ما يراه سبحانه بحكمته .
قال تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } . ( الشورى : 27 ) .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } أي : أغنى العباد بتيسير أمر معاشهم من التجارات وأنواع المكاسب ، من الحرف وغيرها ، وأقنى أي : أفاد عباده من الأموال بجميع أنواعها ، ما يصيرون به مقتنين لها ، ومالكين لكثير من الأعيان ، وهذا من نعمه على عباده أن جميع النعم منه تعالى{[911]} وهذا يوجب للعباد أن يشكروه ، ويعبدوه وحده لا شريك له
قوله تعالى : { وأنه هو أغنى وأقنى } قال أبو صالح : أغنى الناس بالأموال وأقنى ، يعني : أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية . قال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال بالإبل والبقر والغنم . وقال قتادة والحسن : أقنى : أخدم . وقال ابن عباس : أغنى وأقنى : أعطى فأرضى . قال مجاهد ومقاتل : أقنى : أرضى بما أعطى وأقنع . وقال ابن زيد : أغنى : أكثر وأقنى : أقل ، وقرأ : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ( الرعد-26 ) وقال الأخفش : أقنى : أفقر . وقال ابن كيسان : أولد .
" وأنه هو أغنى وأقنى " قال ابن زيد : أغنى من شاء وأفقر من شاء ثم قرأ " يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له{[14436]} " [ سبأ : 39 ] وقرأ " يقبض ويبسط{[14437]} " [ البقرة : 245 ] واختاره الطبري . وعن ابن زيد أيضا ومجاهد وقتادة والحسن : " أغنى " مول " وأقنى " أخدم . وقيل : " أقنى " جعل لكم قنية تقتنونها ، وهو معنى أخدم أيضا . وقيل : معناه أرضى بما أعطى أي أغناه ثم رضاه بما أعطاه ، قاله ابن عباس . وقال الجوهري : قني الرجل يقنى قِنًى ، مثل غني يغنى غنى ، وأقناه الله أي أعطاه الله ما يقتنى من القِنْيَةِ والنشب . وأقناه الله أيضا أي رضاه . والقِنَى الرضا ، عن أبي زيد ، قال : وتقول العرب : من أعطي مائة من المعز فقد أعطي القِنَى ، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطي الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطي المُنَى . ويقال : أغناه الله وأقناه أي أعطاه ما يسكن إليه . وقيل : " أغنى وأقنى " أي أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، قاله سليمان التيمي . وقال سفيان : أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا . وقال الأخفش : أقنى أفقر . قال ابن كيسان : أولد . وهذا راجع لما تقدم .
ولما كان الغنى والفقر من الأمور المتوسطة بين الاختيارية والاضطرارية له بكل الأمرين لسبب وكان مقسوماً بين الإناث والذكور بحكمة ربانية لا ينفع الذكر فيها قوته ولا يضر الأنثى ضعفها ، وكان ذكر النشأة الآخرة كالمعترض إنما أوجب ذكر النشأة الأولى ، تعقب ذكرهما به وكان ذكر الغنى مع أنه يدل على الفقر أليق بالامتنان ، والنسبة إلى الرب ، وكان الغنى الحقيقي إنما يكون في تلك الدار ، أخر ذكره فقال : { وأنه } ولما كان ربما نسب إلى السعي وغيره ، أكد بالفعل فقال : { هو } أي وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره { أغنى } ولما كان الغنى في الحقيقة إنما هو غنى النفس ، وهو رضاها بما قسم{[61743]} لها وسكونها وطمأنينتها ، وإنما سمي ذو المال غنياً لأن المال بحيث تطمئن معه النفس ، فمن كان راضياً بكل ما قسم الله به فهو غني ، وهو في الجنانة مغني وإن كان في الدنيا { وأقنى * } أي أمكن من المال وأرضى بجميع الأحوال قال البغوي{[61744]} : أعطى أصول المال وما يدخر بعد الكفاية ، قال : وقال الأخفش أقنى أفقر - انتهى . ونقل الأصبهاني مثله عن أبي زيد ، فتكون الهمزة للإزالة{[61745]} ويقال ، أفناه بكذا أرضاه ، وأقناه الصد : أمكنه منه .