والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :
( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !
أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( 29 ) }
أشداء : واحدهم شديد ، والمراد أقوياء غلاظ قساة على الكفار .
رحماء : جمع رحيم ، أي : متعاطفون متوافقون ، في قلوبهم رحمة ، كالوالد مع الولد ، كقوله تعالى : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . . . } ( المائدة : 54 ) .
يبتغون : يطلبون في جد واجتهاد .
سيماهم : علامتهم وأمارتهم التي تميزهم .
مثلهم : وصفهم العجيب ، الجاري مجرى الأمثال في الغرابة .
شطأه : فراخه ، أو فروعه التي تنبت حول الأصل .
فاستغلظ : فصار من الدقة إلى الغلظ .
فاستوى على سوقه : استقام على قصبه وأصوله ، والسوق : واحدها ساق .
صفات جامعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهم رحماء متعاطفون مع إخوانهم المسلمين ، وهم أشداء أقوياء في الحرب والجهاد في سبيل الله ، وهم راكعون ساجدون عابدون ، متبتِّلون بذكر الله ، وابتغاء فضله ورضوانه ، وقد انعكس الطهر والفضل والإيمان والعبادة من قلوبهم على صفحة وجوههم ، فترى أثر الصلاح والتقوى في وجوههم ، وترى النور والبهاء والرضوان على وجوههم من أثر السجود والطاعة لله ، ذلك مثلهم في التوراة ، أما صفتهم في الإنجيل فهي كزرع زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخرج فراخه أو فروعه فآزرت الأصل وقوته ، فاستغلظ الزرع واشتد وقوى ، واعتدل قائما على الساق القوية المعتدلة ، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأصحابه وقوّتهم وبأسهم وطهارتهم ، ويمدحهم ويقول : ( الله الله في أصحابي ، لا تسبُّوا أصحابي ، من عاداهم فقد عاداني ، ومن عاداني فقد عادى الله ، ومن عادى الله يوشك أن يأخذه )13 .
وقد وعد الله المؤمنين منهم بالمغفرة ومحو الذنوب ، وبالأجر العظيم وبجنة عرضها السماوات والأرض .
29- { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } .
أي : هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصف بالرسالة في الآيتين السابقتين ، وهنا يذكر الله تعالى اسمه :
مبتدأ وخبر ، ما أعذبه وما أطهره وما أحلاه .
{ والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم . . . }
صحابته الأطهار الأبرار كانوا مثلا أعلى في النزاهة والعطاء والطهر ، ولم لا ، ومعلمهم صلى الله عليه وسلم هو معلم الإنسانية كلها ، هو النور المبين الذي أضاء جبين الدنيا ، فعلّم العرب ووحدهم ، وأخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن التفرق إلى الجماعة ، ومن العصبية الجاهلية إلى السكينة والإيمان والوقار ، وهؤلاء الصحابة تربية محمد صلى الله عليه وسلم ، هم أشداء أقوياء على الكفار في قتالهم وحربهم ، كانوا قلة ينتصرون على الكثرة .
قال تعالى : { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون } . ( آل عمران : 123 ) .
وكانوا يهتدون بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة . . . } ( التوبة : 123 ) .
متعاطفون متوادون متعاونون ، كما قال سبحانه : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين . . . } ( المائدة : 54 ) .
{ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا . . . }
من صفاتهم العبادة والصلاة والركوع والسجود ، والتبتل وصلاة الفرائض والنوافل وقيام الليل ، وهم في صلاتهم خاشعون خاضعون ، ابتغاء ثواب الله وفضله ورضوانه ، ومحبته ومودته ، وهم لذلك ذاكرون شاكرون حامدون ، لربهم ساجدون .
{ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة . . . }
وقد ظهر نور العبادة والطهر ، وعلامة التقوى والإيمان على وجوههم ، نورا وحبا وفضلا ، من أثر السجود والاقتراب من الله تعالى ، تلك صفتهم في كتاب موسى التوراة ( وهي العهد القديم ) .
أما صفتهم في الإنجيل ( وهي العهد الجديد ) ، فهي كزرع ونبات نام قوي ، أخرج فرعا صغيرا بجواره ، فآزره وقواه وأعانه ، أي أن الزرع قوى الشطء لأنه تغذّى منه ، واحتمى به ، وتحول من الدقة إلى الغلظ والقوة ، واستقام الفرع الجديد على أعواده وسيقانه ، يعجب الزراع لقوته وحسن منظره ، وكان صلى الله عليه وسلم محبا لأصحابه ، حريصا على تقويتهم وتطهيرهم وتعليمهم ليكونوا أساتذة الدنيا ، وليغيظ بهم الكفار ، فقد فتحوا الفتوح ، وقادوا الغزوات ، أو كانوا لحمتها وسداها ، حتى جاء نصر الله والفتح .
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي ، وأفرضهم زيد ، وأقرؤهم أُبيّ ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح )14 .
ويجوز أن يكون معنى هذه الفقرة ما يأتي :
{ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار . . . }
بدأ الصحابة قلة ضعيفة ثم اشتد أمرهم وتقوت جماعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كزرع أخرج فسيله حوله ، مثل نبات القمح والشعير وغيرهما ، فيقوى الأصل بما حوله ويشتد ويتحول من الدقة إلى الغلظ ، ويستقيم على أصوله ؛ فيعجب به الزراع لقوته وغلظه وحسن منظره .
والخلاصة : إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقّيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم وأعجب الناس .
أي : إن الله تعالى قوّاهم وسدد خطاهم ليكونوا غصَّة في حلوق الكافرين ، إن يعتقدون أن الله متم بهم نوره ولو كره الجاحدون .
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
لقد وعد الله تعالى الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة لذنوبهم ، وستر عيوبهم ، ووعدهم بالجزاء العظيم في الدنيا والآخرة .
ذكر ابن جرير ، عن قتادة أنه قال : مكتوب في الإنجيل : ( سيخرج قوم يشبهون نبات الزرع ، يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ) .
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
هو مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام ، وترقيه في الزيادة ، إلى أن قوي واستحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ، ثم قواه الله تعالى بمن معه ، كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها .
وظاهر قول الزمخشري أن الزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشطء هو الصحابة .
والخلاصة أن من المفسرين من رأى الآتي :
الزرع أمدّ الشطء ، فقوى الشطء واشتد و استوى على سوقه ، وهم الصحابة .
الزرع أخرج الشطء أو الفسيلة المجاورة له ، فآزرت الفسيلة الزرع ، فاستغلظ الزرع وقوي واشتد واستوى على سوقه .
والمراد أن الصحابة آزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوي بهم ، ولكل وجهة ، لكن سياق الآية في وصف الصحابة ، والمضمون والفحوى يؤيد أن الزرع آزر الشطء ، فاستغلظ الشطء وقوي واستوى على سوقه ، أي أننا نرجح أن الذي استغلظ هم الصحابة ، بدليل قوله تعالى في آخر الآية :
{ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } .
ومن عظمة المعلم العظيم أن يمد تلاميذه ويقويهم ليكونوا خير أمة أخرجت للناس .
روى البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ( نصفه ) )15 . رضي الله عنهم وأرضاهم .
قال ابن عباس : إن للمعصية ظلمة في القلب ، وسوادا في الوجه ، ونقصا في الرزق ، وبغضا في قلوب الخلق .
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : من أصلح سريرته ، أصلح الله تعالى علانيته .
وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوّة ، لخرج عمله للناس ، كائنا ما كان )16 .
وروى أحمد ، وأبو داود ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الهدى الصالح ، والسَّمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة )17 .
وذكر بعض المفسرين أن معنى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود . . . }
أنها علامة سوداء تظهر في الجبهة من كثرة السجود ، وكلام شيوخنا يفيد الآتي : إننا ينبغي ألا نتعمد إظهار هذه العلامة ، ولا نحرص على ذلك ، ومن تعمد فإنه يتشبه بالمنافقين ، فإذا ظهرت بدون تعمد فلا حرج ولا بأس .
ونضرب مثلا بأننا نهينا عن طلب الشهرة ، ونشر الأخبار الصالحة عن أنفسنا ، فإذا قال قائل : إن الصحابة رضوان الله عليهم كانت لهم شهرة ، فأخبار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد بن الوليد وغيرهم ، تملأ الكتب ومجالس العلم ، فيقول أبو حامد الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين ) ردا على ذلك ما يأتي : هؤلاء ما تعمدوا الشهرة ، وإنما جاءت الشهرة عفوا بدون قصد منهم ، فاقصد بعملك وجه الله تعالى وحده ، ولا تقصد الشهرة ولا الرياء ولا حسن السيرة بين الناس ، فإن جاءت هذه الأمور لك بدون قصد منك فلا حرج عليك ، وفي الحديث الصحيح : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى )18 .
1- بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح وإعزاز دين الله .
2- وعد المؤمنين ، ووعيد الكافرين والمنافقين .
3- ذم المتخلفين عن الجهاد من أعراب أسلم وجهينة ومزينة وغفار .
4- رضوان الله على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، ووعدهم بالنصر في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة .
5- البشرى بتحقيق رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، وقد تم لهم ذلك بالفعل في العام المقبل .
6- وصف النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة .
7- وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة ، وبالأجر العظيم .
هذه السورة ( الفتح ) آخر القسم الأول من القرآن الكريم وهو المطول ، وسورة ( الحجرات ) أو سورة ( ق ) أول القسم الثاني ، وهو المفصل .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وكان الفراغ من تفسير سورة ( الفتح ) ظهر الأحد 13 من جمادى الأولى سنة 1421 ه ، الموافق 13 من أغسطس سنة 2000م ، بفندق القوات المسلحة المصرية بالأبيّض ، بمدينة مرسى مطروح ، بجمهورية مصر العربية .
3 المرحلة : مسيرة يوم بالإبل ، وهي نحو 30 كيلومترا ، أو 20 ميلا .
44 السالفة : صفحة العنق ، وانفرادها كناية عن الموت .
5 أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، وباب غزوة الحديبية .
6 بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزبادي ، تحقيق الأستاذ النجار ، 1/432 ( بتصرف ) .
7 انظر : كنز العمال ( 1/145 ) .
رواه الطبراني في تفسيره ( 24393 ) من حديث عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل ، قال : ( لا نبرح حتى نناجز القوم ) ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت ، فكان جابر بن عبد الله ، يقول : إن رسول لم يبايعنا على الموت ، ولكنه بايعنا على ألا نفر ، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، كان جابر بن عبد الله ، يقول : لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، قد اختبأ إليها ، يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل .
ذكره العراقي في تخريج الإحياء ، كتاب قواعد العقائد . حديث ( الإيمان يزيد وينقص ) ، وقال : أخرجه ابن عدي في الكامل وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة ، وقال ابن عدي : باطل فيه محمد بن أحمد بن حرب الملحي يتعمد الكذب ، وهو عند ابن ماجة موقوف على أبي هريرة وابن عباس وأبي الدرداء .
10 انظر تفصيل القصة في صحيح البخاري ، وفي سيرة ابن هشام ، وفي ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ، وفي تفسير القاسمي تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ، مجلد 6 ، ص 267-272 ، طبعة دار إحياء التراث العربي . بيروت ، لبنان .
ذكره السيوطي في " الدر المنثور " قال : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمه بن الأكوع رضي الله عنه ، قال : بينا نحن قائلون إذ نادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس البيعة البيعة ، نزل روح القدس فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } ، فبايع لعثمان رضي الله عنه إحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئا لابن عفان رضي الله عنه يطوف بالبيت ونحن ههنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف ) .
رواه البخاري في الشروط باب : الشروط في الجهاد ، والمصالحة مع أهل الحرب ، وكتاب الشروط ( 2581 ، 2582 ) من حديث المسور بن مخرمة ، ومروان ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية . . الحديث ، وفيه عن عكرمة : أنه لما جاء سهيل بن عمرو ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد سهل لكم من أمركم ) . قال معمر : قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو ، فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . قال سهيل : أما الرحمان فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا سم الله الرحمان الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب باسمك اللهم ) ، ثم قال : ( هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) . فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله . قال الزهري : وذلك لقوله : ( لا يسألونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ) ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( على أن تخلوا بيننا وبين البيت فتطوف به ) ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب . . . الحديث .
رواه البخاري في باب : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت متخذا خليلا ) ، ( 3470 ) من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
رواه ابن ماجة في فضائل أصحاب رسول الله ، باب فضائل خباب ( 154 ) من حديث أنس مرفوعا : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح ) .
تقدم تخريجه ، انظر هامش ( 51 ) .
16 لو أن رجلا عمل في صخرة صماء :
ذكره السيوطي في " الدر المنثور " قال : وأخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أن رجلا عمل في صخرة صماء لا باب فيها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان ) .
17 إن الهدى الصلح والسمت الصالح :
رواه أبو داود في باب في الوقار ( 4776 ) من حديث بن الله بن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إن الهدى الصالح والصمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ) .
18 إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ :
رواه البخاري ( 1 ، 6689 ، 2953 ) ، ومسلم في كتاب الإمارة ( 3530 ) ، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد ( 1571 ) والنسائي في كتاب الطهارة ( 74 ) ، وفي الطلاق ( 3383 ) وفي الأيمان والنذور ( 3734 ) ، وأبو داود في كتاب الطلاق ( 1882 ) ، وابن ماجة في كتاب الزهد ( 4217 ) ، وأحمد في مسنده ( 163 ، 283 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
شَطْأه : شطأ الزرع ما يتفرع عليه من أغصان وورق وثمر .
آزره : أعانه وقوّاه . وهو من المؤازرة وهي المعاونة .
على سوقه : على قصبه وأصوله ، والسوق جمع ساق .
فوصفهم بأوصافٍ كلها مدائح لهم ، وذكرى لمن بعدهم . بتلك الأوصاف سادوا الأمم ، وامتلكوا الدول ، ونشروا الإسلام ، وقبضوا على ناصية العالم . وهذه الصفات هي :
1- أنهم أشدّاء على من خالف دينهم وبادأهم العداء ، وهم متراحمون متعاطفون فيما بينهم .
2- أنهم جعلوا الصلاة والإخلاص لله طريقتهم في أكثر أوقاتهم ، لذلك تُبِصرهم راكعين خاشعين كثيرا .
3- وأنهم بذلك يطلبون ثوابا عظيما من الله تعالى ورضوانا منه .
4- ذلك وصفهم البارز في التوراة .
5- وفي الإنجيل ضرب بصفتهم المثل فقال : سيخرج قوم ينبُتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
ذلك أنهم في بدء الإسلام كانوا قليلي العدد ثم كثروا وارتقى أمرهم يوما بعد يوم حتى أعجب الناسُ بهم ، كصفة زرع أخرج أول ما ينشقّ عنه ، فآزره فتحوّل من الدِقة إلى الغِلظ ، فاستقام على أصوله ، يُعجِب الزراعَ بقوّته واكتماله . وكذلك كان حال المؤمنين لِيَغيظَ الله بهم وبقوّتهم الكفار .
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
وقد وفى سبحانه وتعالى بوعده ونصر رسوله وجُندَه ، وهزم الأحزابَ وحده .
بهذه الأوصاف الجليلة يختم هذه السورة العظيمة ، وهذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها ، يوم كان المسلمون مستمسكين بالعروة الوثقى ، سائرين على هُدى دينهم بحق وإخلاص . فانظر الآن وتأمل في حال المسلمين : يحيط بهم الذل والخوف من شرذمة من اليهود تجمعت في فلسطين ، اغتصبت ديار الإسلام ، وهي تضرب العرب في لبنان صباح مساء وتبيد الناس إبادة ، وتهدم ما يصنع العرب من أدوات للتقدم حتى وصلت إلى ضرب المفاعل الذري في بغداد ، ويصرخ زعماؤها بتبجح اليهود المعروف أنها لن تسمح للعرب أن يقيموا أية آلة تجعلهم يتقدمون صناعياً وعلميا . كل هذا وحكام العرب خائفون ساكتون كأن شيئا لم يحدث ، وزعماؤهم يتباكون ويطلبون من أمريكا عدوّ العرب الأول أن تحلّ لهم قضيتهم ! يا للذل والعار ! كيف نستطيع أن نواجه ربنا غداً يوم نلقاه !
ما هي العلة التي نتعلل بها لرسولنا الكريم ! لعل الله أن يبدل الحالَ غير الحال ، ويخضّر الزرعُ بعد ذبوله ، وتعود الأمة إلى سيرتها الأولى ، متمسكة بدينها الحنيف ، مجتمعة الكلمة ، موحدة الهدف . واللهَ أسأل أن يلهمنا الصواب والرشد والرجوع إلى ديننا الحنيف . وعند ذلك ينطبق علينا قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } والحمد لله رب العالمين .
قوله تعالى : { محمد رسول الله } تم الكلام ها هنا ، قاله ابن عباس ، شهد له بالرسالة ، ثم قال مبتدئاً : { والذين معه } قالوا وفيه " واو " فيه للاستئناف ، أي : والذين معه من المؤمنين ، { أشداء على الكفار } غلاظ عليهم كالأسد على فريسته لا تأخذهم فيهم رأفة ، { رحماء بينهم } متعاطفون متوادون بعضهم لبعض ، كالولد مع الوالد ، { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ( المائدة-54 ) { تراهم ركعاً سجداً } أخبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ، { يبتغون فضلاً من الله } أن يدخلهم الجنة ، { ورضواناً } أن يرضى عنهم ، { سيماهم } أي : علامتهم ، { في وجوههم من أثر السجود } اختلفوا في هذا السيما : فقال قوم : هم نور وبياض في وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا ، وهو رواية عطية العوفي عن ابن عباس ، قال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلوا . وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر . وقال آخرون : هو السمت الحسن والخشوع والتواضع . وهو رواية الوالبي عن ابن عباس قال : ليس بالذي ترون ولكنه سيما الإسلام وسجيته وسمته وخشوعه . وهو قول مجاهد ، والمعنى : أن السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به . وقال الضحاك : هو صفرة الوجه من السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى . قال عكرمة وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على الجباه . قال أبو العالية : لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس . { ذلك } الذي ذكر ، { مثلهم } صفتهم { في التوراة } ها هنا تم الكلام ، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل ، فقال : { ومثلهم } صفتهم ، { في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } قرأ ابن كثير ، وابن عامر : شطأه بفتح الطاء ، وقرأ الآخرون بسكونها ، وهما لغتان كالنهر والنهر ، وأراد فراخه ، يقال : أشطأ الزرع فهو مشطئ ، إذا فرخ ، قال مقاتل : هو نبت واحد ، فإذا خرج ما بعده فهو شطؤه . وقال السدي : هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى . قوله : { فآزره } قرأ ابن عامر : فأزره بالقصر والباقون بالمد ، أي : قواه وأعانه وشد أزره ، { فاستغلظ } ذلك الزرع ، { فاستوى } أي : تم وتلاحق نباته وقام ، { على سوقه } أصوله ، { يعجب الزراع } أعجب ذلك زراعه . هذا مثل ضربه الله عز وجل لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون . قال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . وقيل : الزرع محمد الشطء : أصحابه والمؤمنون . وروي عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : { محمد رسول الله والذين معه } : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { أشداء على الكفار } عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، رحماء بينهم عثمان رضي الله عنه ، تراهم ركعاً سجداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يبتغون فضلاً من الله بقية العشرة المبشرين بالجنة . وقيل : { كمثل زرع } محمد ، { أخرج شطأه } أبو بكر { فآزره } عمر { فاستغلظ } عثمان ، للإسلام { فاستوى على سوقه } علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ، يعجب الزراع قال : هم المؤمنون . { ليغيظ بهم الكفار } قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم : لا تعبدوا الله سراً بعد اليوم .
حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد الشجاعي السرخسي إملاءً ، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن أحمد القفال ، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن محمد الفضل السمرقندي ، حدثنا شيخي أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ، حدثنا رجاء بن قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عبد الرحمن بن حميد ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي في الجنة ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح ، في الجنة " .
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد النعيمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم ، حدثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي ، حدثنا قطبة بن العلاء ، حدثنا سفيان الثوري ، عن خالد الخزاعي ، عن أبي قلابة ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرحم أمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " . ورواه معمر عن قتادة مرسلاً وفيه : " وأقضاهم علي " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز المختار قال خالد الحذاء : حدثنا عن أبي عثمان قال حدثني عمرو بن العاص : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال : فأتيه فقلت : أي الناس أحب إليك . قال : عائشة ، فقلت : من الرجال . فقال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، فعد رجالاً فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم " . أخبرنا أبو منصور عبد المالك ، وأبو الفتح نصر بن الحسين ، أنبأنا علي بن أحمد ابن منصور بن محمد بن الحسين بن شاذويه الطوسي بها قال : حدثنا أبو الحسن محمد ابن كيسان النحوي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سلمة ، عن أبي الزهراء ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي : أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد أن أحدً ارتج وعليه محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا أبو سعيد الأشج ، أنبأنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن علي قال : " عهد إلي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق " .
أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنبأنا عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، حدثنا محمد بن الفضل بن عطية ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة " . قوله عز وجل : { ليغيظ بهم الكفار } أي : إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين . قال مالك بن أنس : من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية .
أنبأنا أبو الطيب طاهر بن محمد بن العلاء البغوي ، حدثنا أبو معمر المفضل بن إسماعيل ، أنبأنا جدي أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أخبرني الهيثم بن خلف الدوري ، حدثنا المفضل بن غسان بن المفضل العلائي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن مغفل المزني قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً من بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه " .
حدثنا أبو المظفر بن محمد بن أحمد بن حامد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم ، أنبأنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار بالكوفة ، أنبأنا وكيع بن الجراح ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعرياني ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن عروة ، حدثنا محمد بن الحسين بن محمد بن إسكاف ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن أبي خباب عن أبي سليم الهمداني ، عن أبيه ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سرك أن تكون من أهل الجنة فإن قوماً ينتحلون حبك يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ، نبزهم الرافضة ، فإن أدركتهم فجاهدهم فإنهم مشركون " في إسناد هذا الحديث نظر . وقول الله عز وجل : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } قال ابن جرير : يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، ورد الهاء والميم لفظه على معنى الشطء { مغفرة وأجراً عظيماً } يعني الجنة والله اعلم .
ثم حقق الله تلك الشهادة وبينها فقال { محمد رسول الله والذين معه } من المؤمنين { أشداء } غلاظ { على الكفار رحماء بينهم } متوادون متعاطفون { تراهم ركعا سجدا } في صلواتهم { يبتغون فضلا من الله } أن يدخلهم الجنة { ورضوانا } أن يرضى عنهم { سيماهم } علامتهم { في وجوههم من أثر السجود } يعني نورا وبياضا في وجوههم يوم القيامة يعرفون بذلك النور أنهم سجدوا في دار الدنيا لله تعالى { ذلك مثلهم } صفة محمد ص وأصحابه { في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } فراخه ونباته { فآزره } قواه وأعانه أي قوى الشطأ الزرع كما قوى أمر محمد وأصحابه والمعنى أنهم يكونون قليلا ثم يكثرون وهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه عليه السلام إذ خرج وحده فأيده بأصحابه كما قوى الطاقة من الزرع بما ينبت حوله { فاستغلظ } فغلظ وقوي { فاستوى } ثم تلاحق نباته وقام على { سوقه } جمع ساق { يعجب الزراع } بحسن نباته واستوائه { ليغيظ بهم الكفار } فعل الله تعالى ذلك بمحمد وأصحابه ليغيظ بهم أهل الكفر { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } أي من أصحاب محمد عليه السلام { مغفرة وأجرا عظيما }
{ والذين معه } يعني : جميع أصحابه وقيل : من شهد معه الحديبية وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع ، وقيل : الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا والأول عندي أرجح لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأما على ما اختاره ابن عطية فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه : { بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] ، وقال : { جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التوبة : 73 ] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين { سيماهم في وجوههم } السيما العلامة وفيه ستة أقوال :
الأول : أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلي من كثرة السجود .
الثاني : أنه أثر التراب في الوجه .
الثالث : أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة .
الرابع : حسن الوجه لما ورد في الحديث : " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " . وهذا الحديث غير صحيح بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه .
السادس : أن ذلك يكون في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله : { تراهم ركعا سجدا } وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك ، والأول أظهر ، وقد كان بوجه علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود .
{ ذلك مثلهم في التوراة } أي : وصفهم فيها وتم الكلام هنا ، ثم ابتدأ قوله و{ مثلهم في الإنجيل } ، كزرع ، وقيل : إن { مثلهم في الإنجيل } عطف على { مثلهم في التوراة } ثم ابتدأ قوله : { كزرع } وتقديره : هم كزرع ، والأول أظهر ، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة .
{ كزرع أخرج شطأه } هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ، ثم قوي وظهر ، وقيل : الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطأ وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، ويقال : بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات .
{ فآزره } أي : قواه وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول شطأه أو بالعكس لأن كل واحد منهما يقوي الآخر ، وقيل : معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله ، وقيل : أفعله ، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل .
{ فاستوى على سوقه } جمع ساق أي : قام الزرع على سوقه ، وقيل : قوله : { كزرع } يعني : النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي بن أبي طالب .
{ ليغيظ بهم الكفار } تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقيل : يتعلق بوعد وهو بعيد { منهم } لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم .