سورة الأحقاف مكية وآيتها خمس وثلاثون :
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة . . قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا ، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه ، وبعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء . . هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها ، وترتبط به أوثق ارتباط ؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ؛ وتوقع فيها على كل وتر ؛ وتعرضها في مجالات شتى ، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا . سواء بسواء .
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامة في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة ، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين : حا . ميم . كما بدأت السور الست قبلها . تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند الله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون ، وقيامه على الحق ، وعلى التقدير والتدبير : ( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ) . . فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) .
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند الى حق من القول ، ولا مأثور من العلم : ( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) . . ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب . ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب !
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم له : ( هذا سحر مبين ) . . وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه . ويلقن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة ، النابع من مخافة الله وتقواه ، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة : ( قل : إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم ، وهو الغفور الرحيم . قل : ما كنت بدعا من الرسل ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، وما أنا إلا نذير مبين ) . . ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام - : ( فآمن واستكبرتم ) . . ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . ) ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم ! . )
ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : ( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) . .
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق : ( إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) . .
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة . ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهم . ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تائب ضارع مستسلم منيب : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) . . وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) . .
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) . .
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عندما كذبوا بالنذير . ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم ، التي توقعوا فيها الري والحياة ؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه : ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا : هذا عارض ممطرنا ، بل هو ما استعجلتم به ، ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . ويلمس قلوبهم بهذا المصرع ، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم . لعلهم يتأثرون ويرجعون . .
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم الله لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة ، والشهادة له بأنه الحق : ( مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . . وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير ) . .
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار ، فيقرون بما كانوا ينكرون ، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين !
وتختم السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قصير يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ? ) . .
( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ، والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) . .
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم ، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر ، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده ، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده . كتاب هذا الكون الذي تراه العيون ، وتقرؤه القلوب .
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير . فتنزيل الكتاب ( من الله العزيز الحكيم )هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة .
تفسير القرآن الكريم الجزء السادس والعشرون من القرآن الكريم
سورة الأحقاف مكية ، وآياتها 35 آية ، نزلت بعد سورة الجاثية .
تعرض سورة الأحقاف قضية الإيمان بوحدانية الله ، وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه ، والإيمان بالوحي والرسالة ، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ، ومن إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا . وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية ، ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها ، وترتبط به أوثق ارتباط ، فتبقى حية حارة تبعث من التأثر الدائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ، وتوقع فيها على كل وتر ، وتعرضها في مجالات شتى ، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية ، كما أنها تجعلها قضية الوجود كله -لا قضية البشر وحدهم- فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن ، كما تذكر موقف بعض بني إسرائيل منه ، وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا ، كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا سواء بسواء .
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامة في الآخرة ، كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة ، وتجعل من السماوات والأرض كتبا تنطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
تشتمل سورة الأحقاف على أربعة عناصر متماسكة كأنها عنصر واحد ذو أربعة مقاطع :
يبدأ المقطع الأول بالحرفين ( حا . ميم ) . وهي بداية تكررت في ست سور سابقة تسمى بالحواميم . وهي : غافر ، وفصلت ، والشورى ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والسورة السابعة هي الأحقاف .
ونلحظ أن هذه السور السبع تبدأ بالحرفين ( حا . ميم ) ، ثم تعقب بذكر الكتاب ، مما يؤيد أن هذه الأحرف نزلت على سبيل التحدي لأهل مكة أن يأتوا بمثل هذا القرآن .
وتشير سورة الأحقاف في بدايتها إلى القرآن فتقول : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } . ( الأحقاف : 2 ) وعقبها مباشرة الإشارة إلى كتاب الكون وقيامه على الحق وعلى التقدير والتدبير : { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى . . . } ( الأحقاف : 3 ) . فيتوافق كتاب القرآن المتلو ، وكتاب الكون المنظور ، على الحق والتقدير .
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند إلى حق من القول ولا مأثور من العلم . ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين } . ( الأحقاف : 7 ) .
ثم يسوق إنكارهم للحق وتطاولهم على الوحي ، واتهامهم النبي بالكذب والافتراء . ويرد عليهم بأن الأمر أجل من مقولاتهم الهازلة ، وادعاءاتهم العابثة ، إذ هو أمر الله العليم الخبير ، يشهد ويقضى ، وفي شهادته وقضائه الكفاية : { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم } . ( الأحقاف : 8 ) .
ثم يبين أن محمدا ليس بدعا من الرسل فقد سبقه رسل كثيرون ، فهو مبلغ عن الله وملتزم بوحي السماء ، ويسوق حجة أخرى على صدق رسالته ، تتمثل في موقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل ، حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى عليه السلام . ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية على هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : { لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . . } ( الأحقاف : 11 ) .
ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهنته : { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } . ( الأحقاف : 12 ) .
وفي نهاية المقطع الأول يصور لهم جزاء المحسنين ، ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم بشرطها ، وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } . ( الأحقاف : 13 ) فقد آمنوا بالله وأعلنوا ذلك ، واستقاموا على منهج الإيمان فاستحقوا حياة كريمة في الدنيا ، ونعيما خالدا في الآخرة .
2- الفطرة السليمة والفطرة السقيمة :
يحتوي المقطع الثاني على ست آيات هي الآيات من ( 15-20 ) ، وفيها حديث عن الفطرة في استقامتها وفي انحرافها ، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف .
يبدأ بالوصية بالوالدين ، وكثيرا ما ترد الوصية بالوالدين لاحقة للكلام عن العقيدة ، لبيان أهمية الأسرة والعمل على ترابطها ، وتذكير الإنسان بأصل نعمته ورعايته .
وتذكرنا الآيات بجهود الأم وفضلها في الحمل والولادة والرضاع .
" إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية ، تسعى للالتصاق بجدار الرحم وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ، فيتوارد دم الأم على موضعها حيث تسبح هذه البويضة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ، وتمتصه لتحيا به وتنمو ، وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم ، دائمة الامتصاص لمادة الحياة ، والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول .
وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير ، ذلك أنها تعطى محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ، وهذا كله قليل من كثير .
ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ، ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة ، ثمرة تلبية الفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تفيض وتمتد بينما هي تذوي وتموت .
ثم الرضاع والرعاية ، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية ، وهي مع هذا وذاك فرحة سعيدة رحيمة ودود ، لا تمل أبدا ، ولا تراها كارهة لتعب هذا الوليد ، وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد " 1 .
وقد تكررت وصية القرآن للأبناء ببر الآباء ، لأن الوالدين قدما كل شيء ، كالنبتة التي ينمو بها النبات فإذا هي قشة ، وكالبيضة التي ينمو منها الكتكوت فإذا هي قشرة .
ومن الواجب رد الجميل والعرفان بالفضل لأهله ، وأن يحسن الإنسان إلى أصله وأن يدعو لهما ، وهو نوع من تكافل الأجيال ، قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 ) } . ( الأحقاف : 15 ) .
وهذا النموذج الذي نشاهده في الآية ، نموذج للفطرة المستقيمة التي ترعى أصلها وتتعهد ذريتها ، وهذا النموذج يقبل الله عمله ويحشره في أصحاب الجنة .
أما النموذج الثاني فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال ، نموذج ولد عاق يجحد معروف والديه ، وينكر البعث والجزاء ويقول : { ما هذا إلا أساطير الأولين } . ( الأحقاف : 17 ) .
وهذا النموذج جدير بالخسران ، لقد خسر اليقين والإيمان في الدنيا ، ثم خسر النعيم والرضوان في الآخرة .
وينتهي هذا المقطع من السورة بعرض هذين النموذجين ومصيرهما في النهاية ، ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة حيث يعرض المتكبرون على النار ، وفي ذلك المشهد نرى الغائب شاهدا ماثلا يستحث النفوس على الهدى ، ويستجيش الفطر السليمة القوية لارتياد الطريق الواصل المأمون .
يتناول المقطع الثالث من السورة قصة عاد ، وهم قوم نبي الله هود ، ويشمل الآيات ( 20-28 ) .
والقصة هنا تخدم الفكرة وتؤيدها ، فقد أنكر أهل مكة رسالة النبي محمد ، وأعرضوا عن دعوته ، فجاء هذا المقطع يذكرهم بأشباههم وينذرهم أن يصيبهم ما أصاب السابقين .
{ واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف . . . } ( الأحقاف : 21 ) . وأخو عاد هو هود عليه السلام ، دعا قومه إلى التوحيد ، وحذرهم من عذاب الله .
والأحقاف جمع حِقف ، وهو الكثيب المرتفع من الرمال ، وقد كانت منازل عاد على المرتفعات المتفرقة في جنوب الجزيرة ، ويقال إنها كانت في حضرموت .
وقد أنذر أخو عاد قومه ودعاهم إلى عبادة الله وحده ، وحذرهم بطشه وانتقامه ، ولم تؤمن عاد برسالة هود وقابلت دعوته بسوء الظن وعدم الفهم والتحدي والاستهزاء ، واستعجال العذاب الذي ينذرهم به ، فلما رأوا العذاب في صورة سحابة ظنوه مطرا مفيدا لهم : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 24 ) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 25 ) } . ( الأحقاف : 24-25 ) .
وتقول الروايات إنه أصاب القوم حر شديد ، واحتبس عنهم المطر ، ودخن الجو حولهم من الحر والجفاف ، ثم ساق الله إليهم سحابة ففرحوا بها فرحا شديدا ، وخرجوا يستقبلونها في الأودية وهم يحسبون فيها الماء : { قالوا هذا عارض ممطرنا . . . } وجاءهم الرد بلسان الواقع : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها . . . } وهي الريح الصرصر العاتية التي ذكرت في سورة أخرى كما جاء في صفتها : { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } . ( الذاريات : 42 ) .
لقد اندفعت الريح تحقق أمر الله وتدمر كل شيء بأمر الله ، فهلك القوم بجميع ما يملكون من أنعام ومتاع وأشياء ، وبقيت مساكنهم خالية موحشة لا ديار فيها ولا نافخ نار .
ويلتفت السياق إلى أهل مكة يلمس قلوبهم ، ويحرك وجدانهم ، ويذكرهم بأن الهالكين كانوا أكثر منهم تمكنا في الأرض ، وأكثر مالا ومتاعا وقوة وعلما ، فلم تغن عنهم قدرتهم ولا قوتهم ، ولم يغن عنهم ثراؤهم ، ولم ينتفعوا بسمعهم وأبصارهم وأفئدتهم ، بل أغلقوا قلوبهم عن سماع الحق ، ولم تغن عنهم آلهتهم التي اتخذوها تقربا إلى الله .
وكذلك يقف المشركون في مكة أمام مصارع أسلافهم من أمثالهم ، فيقفهم أمام مصيرهم هم أنفسهم ، ثم أمام الخط الثابت المطرد المتصل ، خط الرسالة القائمة على أصلها الواحد الذي لا يتغير ، وخط السنة الإلهية التي لا تتحول ولا تتبدل ، وتبدو شجرة العقيدة عميقة الجذور ممتدة الفروع ضاربة في أعماق الزمان ، واحدة على اختلاف القرون واختلاف المكان .
لقد أهلك الله القرى التي كذبت رسلها في الجزيرة ، كعاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة ، وثمود بالحجر في شمالها ، وسبأ وكانت باليمن ، ومدين وكانت في طريقهم إلى الشام ، وكذلك قرى قوم لوط وكانوا يمرون بها في رحلة الصيف إلى الشمال .
وقد نوع الله في آياته لعل المكذبين يرجعون إلى ربهم ويثوبون إلى رشدهم .
قال تعالى : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } . ( الأحقاف : 27 ) .
يتناول المقطع الرابع الحديث عن إيمان الجن ، ويشمل الآيات الأخيرة من سورة الأحقاف .
وقد تحدث القرآن عن الجن فذكر أن أصلهم من نار ، وأن منهم الصالحين ومنهم الظالمين ، وأن لهم تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس ، وأن لهم قدرة على الحياة على هذا الكوكب الأرضي ، ولهم قدرة على الحياة خارج هذا الكوكب ، وللجن قدرة على التأثير في إدراك البشر ، والإيعاز بالشر ، قال تعالى : { قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس } . ( الناس : 1-6 ) . ومن خصائص الجن أن يرى الناس ولا يراه الناس ، لقوله تعالى عن إبليس وهو من الجن : { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم . . . } ( الأعراف : 27 ) .
وقد تحدثت الآيات الأخيرة من السورة عن إيمان الجن الذين استمعوا لهذا القرآن ، فتنادوا بالإنصات ، واطمأنت قلوبهم إلى الإيمان ، وانصرفوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الله ، ويبشرونهم بالغفران والنجاة ، ويحذرونهم الإعراض والضلال .
وهذا الأمر في ظاهره الخير عن إيمان الجن ، ومع ذلك فهو يصور أثر هذا القرآن في القلوب ، فعندما سمعت الجن تلاوة القرآن قالوا : أنصتوا ، وعندما تأثرت قلوبهم انطلقوا إلى قومهم يتحدثون عن القرآن والإيمان ، ويعرضون دعوة الإسلام على قومهم ، وبفضل القرآن صاروا دعاة هداة ملك القرآن عليهم نفوسهم ، فانطلقوا يحملون الهداية والرحمة لقومهم ، ثم يتحدثون عن الصلة الوثيقة بين القرآن والتوراة ، وبين محمد وموسى ، فالجميع من عند الله لهداية خلق الله : { قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاب أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } . ( الأحقاف : 30 ) .
وهذا القول من الجن يفيد ما بين الرسل جميعا من آصرة الأخوة ، فربهم واحد ، ودعوتهم واحدة ، وفكرتهم أساسها هداية الناس ومحاربة الرذائل ، والتعاون على الخير والمعروف ، والعداء بين الأديان إنما جاء من سوء الفهم أو من تحريف الإنسان للوحي .
كذلك ورد على لسان الجن إشارة إلى كتاب الكون المفتوح ، ودلالته على قدرة الله الظاهرة في خلق السماوات والأرض ، الشاهدة لقدرته على الإحياء والبعث ، وهي القضية التي يجادل فيها البشر وبها يجحدون .
وبمناسبة البعث يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يبدو فيه الكفار وهم يعترفون بالإيمان ، بعد أن كانوا ينكرونه في الدنيا ثم يقال لهم :
{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } . ( الأحقاف : 34 ) .
وفي ختام السورة توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والمصابرة ، فإنها طريق الرسل ، وما ينبغي للدعاة إلا الصبر والاحتمال .
إن معظم مقصود سورة الأحقاف هو : إلزام الحجة على عبادة الأصنام ، والإخبار عن تناقض كلام المتكبرين ، وبيان نبوة سيد المرسلين ، وتأكيد ذلك بحديث موسى ، والوصية بتعظيم الوالدين ، وتهديد المتنعمين والمترفين ، والإشادة بإهلاك عاد العادين ، والإشارة إلى الدعوة وإسلام الجن ، وإتيان يوم القيامة فجأة2 ، واستقلال لبث اللابثين في قوله : { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } . ( الأحقاف : 35 ) .
حم : تقرأ ( حا ميم ) ، وهما حرفان من حروف المعجم للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز ، كما سبق في أول سورة البقرة .
حرفان من حروف المعجم ، للتنبيه أو للتحدي والإعجاز ، وبيان أن هذه الأحرف المقطعة مبنى كتاب الله العزيز ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، وإنما هو تنزيل من حكيم حميد .
سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون ، نزلت بعد سورة الجاثية . وتعالج سورة الأحقاف قضية العقيدة كسائر السور المكية ، وقد جاء الحديث فيها مفصّلا عن قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيّته المطلقة ، والإيمان بالوحي والرسالة ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه القرآن مصدِّقا لما سبقه من الكتب المنزلة ، والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء .
وسميت " سورة الأحقاف " لقوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذرَ قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه . . . } الآية .
وأخو عاد هو النبي هود عليه السلام ، بعثه الله إلى قوم عاد وكانوا من أقوى الأمم أجسادا ، وأغناهم مالا ، وأكثرهم أولادا . وكانت منازلهم في الأحقاف ( ومعناها الرمال واحدها حِقف ) بين عمان وحضرموت . وكانت لهم حضارة وعناية بالعمران ، لا تزال أنقاض بعض أبنيتهم في حضرموت في " وادي عدم " وشرقيه " وادي سونة " . وقد بادت وأصبح اسمها رمزا للقِدم ، ويقال الآن " العاديّات " لكل شيء قديم .
بدأت السورة بالحروف المقطعة ، ثم تحدّثت عن أن هذا القرآن من عند الله . . وبعد ذلك أشارت إلى كتاب هذا الكون العجيب وما فيه من آيات ، وأن قيامه على الحق ، وإن ظلّ الذين كفروا معرضين عن قبوله . وبعد ذلك تأخذ السورة في عرض قضية التوحيد ، وإقامة الأدلة عليه ، والرد على عَبدة الأصنام ، وأن وضعهم لا يقوم على أساس من الواقع ، ولا مأثور من العلم . ثم تذكر المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة ، والإجابة عنها وبيان فسادها ، وتعقّب حال أهل الاستقامة الذين صدّقوا الأنبياء ، وأن جزاءهم الجنة والنعيم المقيم .
وهي إذ تذكر وصايا للناس من إكرام الوالدين وعمل ما يرضي الله ، وبعض الدعوات الصالحات { أولئك الذين نتقبّل منهم أحسن ما عملوا . . . }-لا تُغفل المقابل من المنكرين العاقّين لوالديهم { من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }
وبعد ذلك يجيء ذكر قصص عاد وما عاثوا من الفساد . لقد طغوا فكان مصيرهم الهلاك { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } .
وفي السورة شيء جديد هو قوله تعالى : { وإذ صرفنا نفرا من الجن يستمعون القرآن } وبعد سماعهم وإنصاتهم له ذهبوا إلى قومهم وأنذروهم وطلبوا منهم أن يُجيبوا داعيَ الله .
وتُختم السورة بتوجيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه إلى الصبر وعدم الاستعجال بالعذاب لمن أنكروا رسالته { فاصبرْ كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } فإن ما ينتظرهم قريب .
افتتحت سورة الأحقاف بحرفين من حروف الهجاء مثل كثير من السور غيرها وقد تقدم الكلام على ذلك ،
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية، ولم يختلف منها الا في آيتين وهي قوله {قل أرأيتم إن كان من عند الله} [الأحقاف 10] الآية، وقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} الآية 6، فقال بعض المفسرين هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضاد حال بلادهم وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأن فاعل ذلك لا شريك له فهو المستحق للإفراد بالعبادة، وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف الدالة على هدوء الريح وسكون الجو بما دلت عليه قصة قوم هود عليه الصلاة والسلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه عنهم. ولا يصح تسميتها بهود ولا تسمية هود بالأحقاف لما ذكر من المقصود بكل منهما...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء واستثنى بعضهم قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت في قصة إسلام عبد الله بن سلام وروي ذلك عن محمد بن سيرين. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد ابن وقاص أنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول: هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله عليه وسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة.. قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه. والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [صلى الله عليه وسلم] رسول سبقته الرسل، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب. والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء.. هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان.
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل؛ وتوقع فيها على كل وتر؛ وتعرضها في مجالات شتى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله -لا قضية البشر وحدهم- فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه. وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا. سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة. كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة. وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع.
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين: حا. ميم. كما بدأت السور الست قبلها. تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند الله: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).. وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون، وقيامه على الحق، وعلى التقدير والتدبير: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى).. فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون).
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند الى حق من القول، ولا مأثور من العلم: (قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).. ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب. ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب!
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقولهم له: (هذا سحر مبين).. وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه. ويلقن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة، النابع من مخافة الله وتقواه، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة: (قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا. هو أعلم بما تفيضون فيه. كفى به شهيدا بيني وبينكم، وهو الغفور الرحيم. قل: ما كنت بدعا من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، وما أنا إلا نذير مبين).. ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى -عليه السلام -: (فآمن واستكبرتم).. ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين)..
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار، وهم يقولون عن المؤمنين: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه..) ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم!.)
ويشير إلى كتاب موسى من قبله، وإلى تصديق هذا القرآن له، وإلى وظيفته ومهمته: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)..
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق: (إن الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون)..
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية: المستقيمة والمنحرفة، في مواجهة قضية العقيدة. ويبدأ معهما من النشأة الأولى، وهما في أحضان والديهم. ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار. فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه، راغب في الوفاء بواجب الشكر، تائب ضارع مستسلم منيب: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون).. وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه، وهو جاحد منكر للآخرة، وهما به ضيقان متعبان: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين)..
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون)..
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد، عندما كذبوا بالنذير. ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم، التي توقعوا فيها الري والحياة؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا: هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزي القوم المجرمين).. ويلمس قلوبهم بهذا المصرع، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. إذ كانوا يجحدون بآيات الله، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون).. ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم، وظهور إفكهم وافترائهم. لعلهم يتأثرون ويرجعون..
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن، حين صرفهم الله لاستماعه، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة، والشهادة له بأنه الحق: (مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم).. وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين)..
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة: (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير)..
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار، فيقرون بما كانوا ينكرون، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين!
وتختم السورة بتوجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب، فإنما هو أجل قصير يمهلونه، ثم يأتيهم العذاب والهلاك: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون؟)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة {سورة الأحقاف} في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين.
وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث.
وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها قلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها {الأحقاف} ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {ووصينا الإنسان بوالديه} إلى قوله {خاسرين}. وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات...
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله.
والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال.
والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء.
وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية.
وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله.
وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام.
والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه.
وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن.
وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة.
وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين، وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة، واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل، وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم، وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى...
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة من السور المكية التي تتناول أصول العقيدة الثابتة، ومنها التوحيد، الذي يعيش فيه الوجود كله حضور الله في تدبيره الشامل للكون وما فيه، ومنها الإيمان بالوحي الذي أنزله الله على رسوله بما يشتمل عليه من رسالة تخرج الناس من الظلمات إلى النور، والإيمان بالبعث الذي يلتقي عنده الناس ليواجهوا الحساب هناك، مع إطلالةٍ متحركةٍ على آفاق السماوات والأرض ومشاهد القيامة، وعلى حركة التاريخ في مصارع قوم هود، ومصارع القرى من حول مكة. ويتحرك المضمون القرآني ليناقش مسألة الشركاء الذين لم يخلقوا شيئاً ولا يملكون أيّ شيءٍ، مما لا يجعل لديهم أساساً للربوبية، كما يجعل الذين يعتقدون فيهم ذلك قوماً متخلِّفين، لا ينطلقون في عقيدتهم من كتاب أو علم، بل ينطلقون من الأوهام والخيالات الباطلة. ويقف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليتحدّث عن دوره وطاقته في نطاق هذا الدور، وتتوزع السورة بعد ذلك في الحديث عن كتاب موسى (عليه السلام) وعن تأثير الإيمان في السلوك الإنساني، ومنه رعاية الوالدين واحتضانهما ورحمتهما والاستجابة إلى ندائهما الإيماني الذي تصوغه اللهفة الوالديَّة والإيمان العميق.. وتنتهي السورة بالحديث عن موقف الكافرين والمستكبرين والفاسقين يوم القيامة، حيث يعرضون على النار، التي هي مصير أمثال هؤلاء.
اعلم أن نظم أول هذه السورة كنظم أول سورة الجاثية...
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده. كتاب هذا الكون الذي تراه العيون، وتقرأه القلوب. وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير، فتنزيل الكتاب (من الله العزيز الحكيم) هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب (حم) وتسمى جميعاً الحواميم...
وقد كانت لنا بحوث كثيرة حول الحروف المتقطعة بعامة، و (حم) بخاصة، في بدايات سور البقرة وآل عمران والأعراف سور الحواميم السابقة، فلا حاجة لتكرارها هنا. ونكتفي هنا بالقول بأنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلاً على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة، ولو تأملنا فيه كثيراً، وفكرنا في أسراره حتى القيامة فسيبقى فيه من الأسرار الخافية الكثير الكثير...
سورة الأحقاف{[1]}
مقصودها إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضاد حال{[2]} بلادهم{[3]} وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأن فاعل ذلك لا شريك له فهو المستحق للإفراد بالعبادة ، وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف الدالة على هدوء الريح وسكون الجو{[4]} بما دلت عليه قصة[ قوم-{[5]} ] هود عليه الصلاة والسلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه{[6]} عنهم ولا يصح تسميتها بهود ولا تسمية هود بالأحقاف لما ذكر من المقصود بكل منهما{[7]} { بسم الله } الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى { الرحمن } الذي سبقت رحمته غضبه بزواجر الإنذار{ الرحيم } الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار بدخول الجنة والنجاة من النار .
{ حم * } حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي النهاية{[58445]} في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد .