قدّر : جعل الأشياء على مقادير مخصوصة .
فهدى : فوجّه كل واحد منها إلى ما ينبغي له .
جعل الأشياء على مقدرة مخصوصة ، في أجناسها وأفرادها وأفعالها وآجالها ، وهدى كلاّ منها إلى ما يصدر عنه ، وينبغي له طبعا أو اختيارا ، ولو تأملت في خلق الإنسان وتدرجه في بطن أمه ، وتدرجه في حياته من الطفولة إلى الشيخوخة ، وسلوكه وعقله وجهده وعمله ، لأدركت معنى : قدّر فهدى ، وكذلك النبات ونموّه وجنب الحشرات إليه ، لتكون من عوامل التلقيح من غير قصد منها ، وتطور النبات والحيوان والطيور ، والشموس والأقمار والكواكب ، وقد يسّر لكل مخلوق وظيفته ، وأودع فيه بالإلهام حركته ، وصدق الله العظيم : قال فمن ربكما يا موسى* قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . ( طه : 49 ، 50 ) .
فهو الخالق ، وهو الملهم ، وهو الميسّر لكل مخلوق أداء وظيفته ورسالته في هذه الحياة .
{ والذي قدر فهدى } قرأ الكسائي : { قدر } بتخفيف الدال ، وشددها الآخرون ، وهما بمعنىً واحد . قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر ، والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها . وقال مقاتل والكلبي : قدر لكل شيء مسلكه ، { فهدى } : عرفها كيف يأتي الذكر والأنثى . وقيل : قدر الأرزاق وهدى لاكتساب الأرزاق والمعاش . وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها . وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج من الرحم . قال الواسطي : قدر السعادة والشقاوة عليهم ، ثم يسر لكل واحد من الطائفتين سلوك سبيل ما قدر عليه .
" الذي قدر فهدى " قرأ علي رضي اللّه عنه والسلمي والكسائي " قدر " مخففة الدال ، وشدد الباقون . وهما بمعنى واحد . أي قدر ووفق لكل شكل شكل . " فهدى " أي أرشد . قال مجاهد : قدر الشقاوة والسعادة ، وهدى للرشد والضلالة . وعنه قال : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة ، وهدى الأنعام لمراعيها . وقيل : قدر أقواتهم وأرزاقهم ، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا ، ولمراعيهم إن كانوا وحشا . وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله " فهدى " قالوا : عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى ، كما قال في ( طه ) : " الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى{[15960]} " [ طه : 50 ] أي الذكر للأنثى . وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها ، وهداها له . وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها . وقيل " قدر فهدى " : قدر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه ، وعرفه وجه الانتفاع به . يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج{[15961]} الغض يرد إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام ، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها ، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى . وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه ، ولا يحصر من حوائجه ، في أغذيته وأدويته ، وفي أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع ، وشوط بطين{[15962]} ، لا يحيط به وصف واصف ، فسبحان ربي الأعلى . وقال السدي : قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر ، وأقل وأكثر ، ثم هداه للخروج من الرحم . وقال الفراء : أي قدر ، فهدى وأضل ، فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله تعالى : " سرابيل تقيكم الحر{[15963]} " [ النحل : 81 ] . ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان ، كقوله تعالى : " وإنك لتهدي إلى صراط{[15964]} مستقيم " . [ الشورى : 52 ] . أي لتدعو ، وقد دعا الكل إلى الإيمان . وقيل : " فهدى " أي دلهم بأفعاله على توحيده ، وكونه عالما قادرا . ولا خلاف أن من شدد الدال من " قدر " أنه من التقدير ، كقوله تعالى : " وخلق كل شيء فقدره تقديرا{[15965]} " [ الفرقان : 2 ] . ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى . ويحتمل أن يكون من القدر والملك ، أي ملك الأشياء ، وهدى من يشاء .
قلت : وسمعت بعض أشياخي يقول : الذي خلق فسوى وقدر فهدى . هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته .
ولما كان جعل الأشياء على أقدار متفاوته مع الهداية إلى ما وقع الخلق له على أوجه{[72837]} متفاضلة مع التساوي في العناصر مما يلي التسوية ، وهو من خواص الملك الذي لا يكون إلا مع الكمال ، أتبعه به بالواو دلالة على تمكن الأوصاف فقال : { والذي قدر } أي أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها{[72838]} وأشخاصها{[72839]} ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها ، وغير ذلك من أحوالها ، فجعل البطش لليد والمشي للرجل والسمع للأذن والبصر للعين ونحو ذلك { فهدى } أي أوقع بسبب تقديره وعقبه الهداية لذلك الذي وقع التقدير من أجله من الشكل والجواهر والأعراض التي هيأه بها لما يليق به طبعاً أو اختياراً بخلق الميول والإلهامات{[72840]} ، ونصب الدلائل والآيات لدفع الشرور وجلب الخيور ، فترى الطفل أول ما يقع من البطن يفتح فاه للرضاعة ، وغيره من سائر الحيوانات ، يهتدي إلى ما ينفعه من سائر الانتفاعات ، فالخلق لا بد له من التسوية ليحصل الاعتدال ، والتقدير لا بد له من الهداية ليحصل الكمال .