ثم تتم سماتهم بقوله : ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة )فنلمح من خلال الكلمات سيماهم كاملة ، وترتسم لنا من قسماتهم صورة واضحة . صورة ذليلة عانية . . لقد كانوا يخوضون ويلعبون فهم اليوم أذلاء مرهقون . .
( ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ) .
فكانوا يستريبون فيه ويكذبون ويستعجلون !
بهذا يلتئم المطلع والختام ، وتتم هذه الحلقة من حلقات العلاج الطويل لقضية البعث والجزاء ، وتنتهي هذه الجولة من جولات المعركة الطويلة بين التصور الجاهلي والتصور الإسلامي للحياة .
الأجداث : القبور ، واحدها جدث .
السّراع : واحدهم سريع ، أي مسرعين .
النصب : كل شيء منصوب كالعلم والراية ، وكذا ما ينصب للعبادة ، والأنصاب جمع جمع .
43 ، 44- يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون* خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون .
اذكر يوم يقومون من قبورهم مسرعين لتلبية النداء ، والوقوف في عرصات القيامة لفصل القضاء ، كأنهم في إسراعهم إلى ساحة القيامة ، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى شيء منصوب : علم أو راية أو صنم من الأصنام .
كان الإسراع إلى المعبودات الباطلة وسائر الطواغيت من عادات المشركين ، وكانوا إذا أبصروا أصنامهم أسرعوا إليها ، يحاول كل منهم أن يستلم الصنم أوّلا ، وفي هذا التشبيه تذكير بسخافة عقولهم ، وتهكّم بإسراعهم إلى الباطل ، وفرارهم من الحق .
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون .
إنهم يحشرون يوم القيامة أذلاء ، منكسرة عيونهم ، تغشاهم المذلة والمهانة والعذاب والهوان في ذلك اليوم ، يوم القيامة ، الذي توعّدهم القرآن به وحذّرهم من عذابه ، لقد كانوا في أعيادهم يسرعون إلى أصنامهم ، فرحين لاهين عابثين في باطلهم ، لكن الصورة اختلفت عند قيامهم من قبورهم ، فإنهم يحشرون أذلاء مرهقين ، قد بدا الانكسار في عيونهم ، وإرهاق المذلة على أبدانهم ، بسبب استهتارهم بذلك اليوم ، واستبعادهم لوقوعه .
وبذلك تتوافق بداية السورة ونهايتها ، فقد كانت البداية سؤال من الكافرين عن يوم القيامة ، سؤال استبعاد واستنكار ، وكانت نهاية السورة رؤية اليوم عيانا ، والإسراع لتلبية الداعي إلى المحشر في حالة من العذاب والهوان والانكسار ، وقد شاهدوا القيامة مشاهدة فعلية واقعية .
قال تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذّركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد . ( آل عمران : 30 ) .
خلاصة ما اشتملت عليه سورة المعارج
3- صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم ، وصفات المصلّين الفائزين .
4- وعيد الكافرين ، وظهور المذلة والانكسار عليهم يوم القيامة .
i في ظلال القرآن 29/96 ، بتصرف .
ii في رواية عن ابن عباس أن الذي سأل هو النضر بن الحارث ، وفي رواية أخرى عنه قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
iii بصائر ذوي التمييز للفيروزبادي 1/480 ، بتصريف .
iv يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار :
رواه البخاري في مواقيت الصلاة ( 555 ) ، وفي التوحيد ( 7429 ، 7486 ) ، ومسلم في المساجد ( 632 ) ، والنسائي في الصلاة ( 485 ) ، وأحمد ( 27336 ) ، 9936 ) ، ومالك في النداء للصلاة ( 413 ) ، من حديث أبي هريرة بلفظ : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكته بالنهار ) ، ورواه البخاري في الأذان ( 649 ) ، وفي تفسير القرآن ( 4717 ) ، ومسلم في المساجد ( 649 ) ، والترمذي في التفسير ( 3135 ) ، والنسائي في الصلاة ( 486 ) ، وابن ماجة في الصلاة ( 670 ) ، وأحمد ( 7145 ، 7557 ، 9783 ) من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ : ( فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح ) . يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } .
v أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري .
رواه أحمد في مسنده ( 24558 ، 24739 ) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا توعى فيوعى الله عليم ) . ورواه البخاري في الزكاة ( 1434 ) وفي الهبة ( 2590 ، 2591 ) ومسلم في الزكاة ( 1029 ) وأحمد في مسنده ( 26382 ) ، 26394 ) حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أنفقي ولا تحصي فيحصى الله عليك ، ولا توعي فيوعى الله عليك ) .
vii شر ما في رجل شح هالع وجبن غالع :
رواه أحمد في مسنده ( 7950 ) وأبو داود في الجهاد ( 2511 ) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع ) .
أخرجه مسلم ( 2999 ) واللفظ له ، وأحمد ( 18455 ، 18460 ، 23406 ، 23412 ) ، والدارمي ( 2777 ) ، من حديث صهيب ابن سنان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) .
ix أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل :
رواه البخاري في الرقاق ( 6464 ) من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( سدّدوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) .
رواه أحمد ( 22251 ) ، من حديث عبادة بن الصامت .
xi صفوة التفاسير ، محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص 446 .
xii ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه :
رواه أحمد في مسنده ( 17387 ) وابن ماجة في الوصايا ( 2707 ) من حديث بسر بن جحاش القرشي أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال : ( قال الله : ابن آدم ، أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا لغت التراقي قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة ) .
قوله : { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } خاشعة ، حال من فاعل { يوفضون } يعني ينطلقون من قبورهم ذليلة أبصارهم وقد غشيهم من الهوان والذل ما غشيهم جزاء كفرهم وتكذيبهم .
قوله : { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } يعني هذا اليوم بويلاته ومصائبه هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا . وهو ما تكشف عنه الآيات العظام هنا من فظاعة الأهوال والمشاهد التي تعاينها البشرية يوم القيامة حيث الأفزاع والبلايا . تكشف الآيات عن ذلك كله بكلماته الربانية المصطفاة ، وعجيب أسلوبها الذي لا يضاهى ، وروعة نظمها المثير الباهر ، الذي يجسد للخيال صورة مذهلة عن القيامة بأحداثها الجسام وكوارثها الرعيبة المزلزلة كأنما هي منظورة ومحسّة{[4638]} .