( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .
فالكل مكشوف . مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف العمل ، مكشوف المصير . وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار ، وتتعرى النفوس تعري الأجساد ، وتبرز الغيوب بروز الشهود . . ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره ، ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه ! وما أقسى الفضيحة على الملأ . وما أخزاها على عيون الجموع ! أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن . ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور ، وهو مخدوع بستور الأرض . فها هو ذا يشعر به كاملا وهو مجرد في يوم القيامة . وكل شيء بارز في الكون كله . الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب شيئا وراء نتوء ولا بروز . والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئا ، والأجسام معراة لا يسترها شيء ، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر !
ألا إنه لأمر عصيب . أعصب من دك الأرض والجبال ، وأشد من تشقق السماء ! وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر . أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع . .
وأن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد ؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب ، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها . وإن الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة ، فتنطوي سريعا ، وتنكمش داخل القوقعة ، وتغلق على نفسها تماما . إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه ، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا أو منحنى سريا ! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية . .
فكيف بهذا المخلوق وهو عريان . عريان حقا . عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير . عريان من كل ساتر . عريان . . . كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار ، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار ? !
يومئذ تعرضون : بعد النفخة الثانية للحساب والجزاء .
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
أي : في ذلك اليوم يعرض الناس للحساب ، والله سبحانه وتعالى مطّلع على سرائرهم وبواطنهم ، وقد ظهر كل شيء علنا أمام الناس .
أما المؤمنون فتظهر للناس أعمالهم ، وصدقة السّرّ ، وكل ما عملوه ابتغاء وجه الله ، فيزداد سرورهم .
وأما الكافرون والمنافقون ، فيظهر للناس سوء أعمالهم ، فيزدادون حسرة .
والعرض هنا عبارة عن المساءلة والمحاسبة .
روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزيّنوا للعرض الأكبر : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
وروى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن جرير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ) . vi .
قال المفسرون : وكل من الحمل والعرض لا يعني التجسيم والتشبيه بالمخلوقات ، وإنما للتصوير والرمز والتقريب إلى الأذهان .
والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية .
والملائكة على أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية : ثمانية أملاك ، أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم الله ، لا ندري نحن من هم ولا ما هم ، كما لا ندري نحن ما العرش ، ولا كيف يحمل . ونخلص من كل هذه المغيبات التي لا علم لنا بها ، ولم يكلفنا الله من علمها إلا ما قصّ علينا ، نخلص من مفردات هذه المغيبات إلى الظلّ الجليل الذي تخلعه على الموقف ، وهو المطلوب منا أن تستشعره ضمائرنا ، وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ، ليشعر القلب البشرى بالجلال والرهبة والخشوع في ذلك اليوم العظيم ، وفي ذلك الموقف الجليل .
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
( فالكلّ مكشوف : مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف العمل ، مكشوف المصير ، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار ، وتتعرى النفوس ، وتتعرى الأجساد ، وتبرز الغيوب بروز الشهود . . . )vii .
( ألا إنه لأمر عصيب ، أعصب من دكّ الأرض والجبال ، وأشدّ من تشقق السماء ، وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر ، أما تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع )viii .
ولهذا قال : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } على الله { لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } لا من أجسامكم وأجسادكم{[1212]} ولا من أعمالكم [ وصفاتكم ] ، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة .
ويحشر العباد حفاة عراة غرلا ، في أرض مستوية ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، فحينئذ يجازيهم بما عملوا ، ولهذا ذكر كيفية الجزاء ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ
قوله تعالى : " يومئذ تعرضون " أي ، على الله ، دليله : " وعرضوا على ربك صفا " وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به ، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة . وروى الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ) . خرجه الترمذي قال : ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة . " لا تخفى منكم خافية " أي هو عالم بكل شي من أعمالكم . " فخافية " على هذا بمعنى خفية ، كانوا يخفونها من أعمالهم ، قاله ابن شجرة . وقيل : لا يخفى عليه إنسان ، أي لا يبقى إنسان لا يحاسب . وقال عبدالله بن عمرو بن العاص : لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر . وقيل : لا تستتر منكم عورة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحشر الناس حفاة عراة ) . وقرأ الكوفيون إلا عاصما " لا يخفى " بالياء ؛ لأن تأنيث الخافية غير حقيقي ، نحو قوله تعالى : " وأخذ الذين ظلموا الصيحة{[15314]} " [ هود : 67 ] واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور . الباقون بالتاء . واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية .
ولما بلغ النهاية في تحذير العباد من يوم التناد ، وكان لهم حالتان : خاصة وعامة ، فالعامة العرض ، والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء ، زاده{[68030]} عظماً بقوله : { يومئذ } أي إذا كان ما تقدم .
ولما كان المهول نفس العرض ، بنى فعله للمفعول ولأنه كلام القادرين فقال : { تعرضون } أي على الله سبحانه وتعالى للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للإكرام والتقريب والإثابة ، والمفسد للإبعاد والتعذيب والإصابة ، عبر عن الحساب بالعرض الذي هو جزؤه ، فالمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش { لا تخفى منكم } أي في ذلك اليوم على أحد بوجه{[68031]} من الوجوه { لا تخفى منكم } أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه { خافية * } أي لا يقع أصلاً على حال{[68032]} من الأحوال شيء{[68033]} من خفاء لشيء كان من حقه الخفاء في الدنيا لا من الأعمال ولا من الأنفس وإن كان في{[68034]} غاية الدقة والغموض لأن ذلك يوم الظهور التام من القبور ومن الصدور ، وغير ذلك من الأمور ، ليكون ذلك أجل لسعادة من سعد ، وأقبح لشقاوة من شقي فأبعد ، قال أبو موسى رضي الله عنه : هي ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تتطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله .