وقبل أن يعرض السياق بقية دعاء نوح - عليه السلام - يعرض ما صار إليه الظالمون الخاطئون في الدنيا والآخرة جميعا ! فأمر الآخرة كأمر الدنيا حاضر بالقياس إلى علم الله ، وبالقياس إلى الوقوع الثابت الذي لا تغيير فيه :
( مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا . فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) .
فبخطيئاتهم وذنوبهم ومعصياتهم أغرقوا فأدخلوا نارا . والتعقيب بالفاء مقصود هنا ، لأن إدخالهم النار موصول بإغراقهم ؛ والفاصل الزمني القصير كأنه غير موجود ، لأنه في موازين الله لا يحسب شيئا . فالترتيب مع التعقيب كائن بين إغراقهم في الأرض وإدخالهم النار يوم القيامة . وقد يكون هو عذاب القبر في الفترة القصيرة بين الدنيا والآخرة . . ( فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) . .
لا بنون ولا مال ولا سلطان ولا أولياء من الآلهة المدعاة !
وفي آيتين اثنتين قصيرتين ينتهي أمر هؤلاء العصاة العتاة ، ويطوي ذكرهم من الحياة ! وذلك قبل أن يذكر السياق دعاء نوح عليهم بالهلاك والفناء . . ولا يفصل هنا قصة غرقهم ، ولا قصة الطوفان الذي أغرقهم . لأن الظل المراد إبقاؤه في هذا الموقف هو ظل الإجهاز السريع ، حتى ليعبر المسافة بين الإغراق والإحراق في حرف الفاء ! على طريقة القرآن في إيقاعاته التعبيرية والتصويرية المبدعة . فنقف نحن في ظلال السياق لا نتعداها إلى تفصيل قصة الإغراق . . ولا الإحراق . . !
{ مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا 25 وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا 26 إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا 27 رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا 28 )
مما خطيئاتهم : من أجل ذنوبهم وآثامهم .
فأدخلوا نارا : عذابا في القبر .
24- مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا .
بسب ذنوبهم ، وإعراضهم عن الإيمان ، وإصرارهم على الكفر ، أغرقهم الله بالطوفان ، ثم أدخلهم النار في عذاب القبر ، أو أدخلهم نار جهنم ، فلم يجدوا أحدا ينصرهم ، ولم تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله ، لقد حاق سوء عملهم ، فأهلكهم الغرق في الدنيا ، ولهم عذاب السعير يوم القيامة .
وقريب من ذلك قوله تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر* ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . ( القمر : 10 ، 11 ) .
{ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُوا نَارًا } فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق ، وهذا كله بسبب خطيئاتهم ، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها ، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها ، فرفضوا ما قال ، حتى حل بهم النكال ، { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } ينصرونهم حين نزل بهم الأمر الأمر ، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر .
قوله تعالى : " مما خطيئاتهم{[15404]} أغرقوا " " ما " صلة مؤكدة ، والمعنى من خطاياهم وقال الفراء : المعنى من أجل خطاياهم ، فأدت " ما " هذا المعنى . قال : و " ما " تدل على المجازاة . وقراءة أبي عمرو " خطاياهم " على جمع التكسير ، الواحدة خطية . وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل ، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء ؛ لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل ، وهو معتل مع ذلك ، فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين . الباقون " خطيئاتهم " على جمع السلامة . قال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات ، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات . وقال قوم : خطايا وخطيات واحد ، جمعان مستعملان في الكثرة والقلة ، واستدلوا بقوله تعالى : " ما نفدت كلمات الله{[15405]} " [ لقمان : 27 ] وقال الشاعر{[15406]} :
لنا الجفَنَات الغُرُّ يلمعن بالضحى *** وأسيافُنا يقطرن من نَجْدَةٍ دَمَا
وقرئ " خطيئاتهم{[15407]} " و " خطياتهم " بقلب الهمزة ياء وإدغامها . وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي " خطيئتهم " على التوحيد ، والمراد الشرك . " فأدخلوا نارا " أي بعد إغراقهم . قال القشيري : وهذا يدل على عذاب القبر . ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ؛ كما قال تعالى : " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا{[15408]} " [ غافر : 46 ] . وقيل : أشاروا إلى ما في الخبر من قوله : ( البحر نار في نار ) . وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : " أغرقوا فأدخلوا نارا " قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب . ذكره الثعلبي قال : أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال : أنشدني أبو بكر بن الأنباري :
الخلق مجتمعٌ طوراً ومفترق *** والحادثاتُ فنونُ ذاتُ أطوارِ
لا تعجبنَّ لأضدادٍ إن اجتمعت *** فالله يجمع بين الماءِ والنارِ
" فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا " أي من يدفع عنهم العذاب .