اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مِّمَّا خَطِيٓـَٰٔتِهِمۡ أُغۡرِقُواْ فَأُدۡخِلُواْ نَارٗا فَلَمۡ يَجِدُواْ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَارٗا} (25)

قوله : { مِّمَّا خطيئاتهم } . «مَا » مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد ، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة ، وجعل «خَطِيئَاتهِم » بدلاً وفيه تعسف .

وتقدم الخلاف في قراءة «خَطِيئاتِهِم » في «الأعراف » .

وقرأ أبو رجاء{[58050]} : «خطيّاتهم » جمع سلامة إلاَّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة .

وقال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلاَّ خطيَّات ، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات .

وقال قوم : خطايا وخطيات ، جمعان مستعملان في القلة ، والكثرة ، واستدلوا بقول الله تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله }[ لقمان : 27 ] .

وقال الشاعر : [ الطويل ]

4890 - لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى*** وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا{[58051]}

وقرأ الجحدريُّ{[58052]} وتروى عن أبيِّ «خطيئتهم » بالإفراد ، والهمز .

وقرأ عبد الله{[58053]} «مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا » ، فجعل «ما » المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به .

و «من » للسببية تتعلق ب «أغْرقُوا » .

وقال ابنُ عطية : لابتداء الغايةِ ، وليس بواضح .

وقرأ العامةُ : «أغرقوا » من «أغرق » .

وزيد بن علي{[58054]} : «غُرِّقُوا » بالتشديد .

وكلاهما للنقل ، تقول : «أغرقت زيداً في الماء ، وغرَّقته به » .

فصل في صحة «عذاب القبر »

قال ابن الخطيب{[58055]} : دل قوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق ، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلاَّ بطلت دلالة هذه الفاء ، وأيضاً فقوله «فأدْخِلُوا » يدل على الإخبار عن الماضي ، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك ، وقال مقاتل ، والكلبيُّ : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً ، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ؛ لصدق وقوع وعده كقوله : { ونادى أَصْحَابُ الجنة }[ الأعراف : 44 ] .

قال ابن الخطيب{[58056]} : وهذا ترك للظاهر ، من غير دليل ، فإن قيل : إنما تركنا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء ، فإنا نشاهده هناك ، فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً ؟ فالجواب : إن هذا الإشكال ، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل ، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره ، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل{[58057]} ، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ ، من أول عمره إلى الآن ، فلمَ لا يجوز أن يقال : نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب .

ونقل القرطبيُّ{[58058]} عن القشيري أنه قال : هذه الآية تدل على عذاب القبرِ ، ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ، كقوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }[ غافر : 46 ] .

وقيل : أشار إلى ما في الخبر من قوله : «البحرُ نارٌ في نارِ » .

وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : { أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ، قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب{[58059]} . ذكره الثعلبي .

وأنشد ابن الأنباري : [ البسيط ]

4891 - الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ***والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ

لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ***فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ{[58060]}

قال المعربون : «فأدخلُوا » يجوز أن يكون من التعبير عن المستقبل بالماضي ، لتحقق وقوعه كقوله : { أتى أَمْرُ الله }[ النحل : 1 ] ، وأن يكون على بابه ، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }[ غافر : 46 ] .

قوله : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } ، أي : من يدفع عنهم العذاب ، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا }[ الأنبياء : 43 ] .


[58050]:ينظر: البحر المحيط 8/366، والدر المصون 6/386.
[58051]:تقدم.
[58052]:ينظر: المحرر الوجيز 5/376، والبحر المحيط 8/336، والدر المصون 6/386.
[58053]:ينظر: البحر المحيط 8/337، والدر المصون 6/386.
[58054]:ينظر: السابق.
[58055]:الفخر الرازي 30/129.
[58056]:ينظر الرازي 30/129.
[58057]:في أ: ما يذهب.
[58058]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/201.
[58059]:ذكره القرطبي في "تفسيره (18/201).
[58060]:ينظر القرطبي 18/201.