والقرآن يواجه هذه الخيلاء الشريرة بالتهديد والوعيد :
( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . .
وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، وقد أمسك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بخناق أبي جهل مرة ، وهزه ، وهو يقول له : ( أولى لك فأولى . ثم أولى لك فأولى ) . . فقال عدو الله : أتوعدني يا محمد ? والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا . وإني لأعز من مشى بين جبليها ! ! فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وبرب محمد القوي القهار المتكبر . ومن قبله قال فرعون لقومه : ( ما علمت لكم من إله غيري ) . . وقال : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? ) . . ثم أخذه الله كذلك .
وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتز بعشيرته وبقوته وبسلطانه ؛ ويحسبها شيئا ؛ وينسى الله وأخذه . حتى يأخذه أهون من بعوضة ، وأحقر من ذبابة . . إنما هو الأجل الموعود لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .
أولى لك فأولى : هلاك لك أيها المكذّب ، أو قاربك ما يهلكك .
34 ، 35- أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى .
ويل لك أيها الشقي ، ثم ويل لك .
هذه العبادرة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد ، وأصلها أنها أفعل تفضيل من : وليه الشيء ، إذا قاربه ودنا منه ، أي : وليك الشر وأوشك أن يصيبك ، فاحذر وانتبه لأمرك . اه .
ونلحظ أن القرآن الكريم كان يقود معركة ثقافية ضد هؤلاء المكذبين ، فقد عرض القرآن أربعة أعمال لأبي جهل ، هي :
فلا صدّق ، ولا صلى ، ولكن كذّب وتولّى ، ثم رد عليه بوعيد مكون من أربعة هي :
أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر أبا جهل وتوعّده ، فاستكبر أبو جهل ، وأبى وأعرض ، فقتله الله يوم بدر .
ثم عرض القرآن أدلة عقلية على وجوب البعث ، وسهولة وقوعه على الله تعالى .
قوله تعالى : " أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى " تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ، كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : " فلا صدق ولا صلى . ولكن كذب وتولى " أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي . فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة . والله أعلم . لا يقال : فإن قوله : " ثم ذهب إلى أهله يتمطى " خصلة خامسة ، فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها ، وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم{[15644]} ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فهزه أو مرتين ثم قال : ( أولى لك فأولى ) فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه .
ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل . وهي كلمة وعيد . قال الشاعر :
فأولى ثم أولى ثم أولى *** وهل للدَّرِّ يُحْلَبُ من مَرَدِّ
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده فقال : [ أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى ] . فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها . فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا . فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة .
وقيل : معناه : الويل لك ، ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم *** فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة{[15645]} *** فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ، وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ، كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ، وهذا التكرير{[15646]} كما قال : لك الويلات إنك مرجلي أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول . وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف . وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب . وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي " أولى " في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ، وأصله من الولي ، وهو القرب ، قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " [ التوبة : 123 ] أي يقربون منكم ، وأنشد الأصمعي :
أي قارب أن يكون له ، وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجَتْ له أن يَكْمَدَا
أي قد دنا صاحبها [ من ]{[15647]} الكمد . وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي . النحاس : العرب تقول أولى لك : كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة . المهدوي قال : ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ؛ لأن أبا زيد{[15648]} قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا . فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك . و " لك " خبر عن " أولى " . ولم ينصرف " أولى " لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد . وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيء الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم .
ولما كان هذا غاية الفجور ، وكان أهل الإنسان يحبونه إذا أقبل إليهم{[70325]} لا سيما إذا كان على هذه الحالة عند أغلب الناس ، أخبر بما هو حقيق أن يقال له في موضع " تحية أهله " من التهديد العظيم فقال : { أولى لك } أي {[70326]}أولاك الله{[70327]} ما تكره ، ودخلت اللام للتأكيد الزائد والتخصيص ، وزاد التأكيد بقوله : { فأولى * } أي ابتلاك الله بداهية عقب داهية ، وأبلغ ذلك التأكيد{[70328]} إشارة إلى أنه يستحقه على مدى الأعصار ،
قوله : { أولى لك فأولى 34 ثم أولى لك فأولى } وهذا وعيد على وعيد من الله لأبي جهل وجميع نظرائه والذين هم على شاكلته من العتو وفرط الظلم والاستكبار والجحود الذين يمشون في الأرض طغاة مستكبرين والمعنى : ويل لك فويل لك . وهو دعاء عليه بأن يحيق به ما ينكل به تنكيلا . أو يحق لك أن تمشي هذه المشية من البطر والاختيال وكنت من الجاحدين المكذبين . على أنه يقال له ذلك على سبيل التهكم والتهديد . كقوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } .