فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون ) . .
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم . والله - سبحانه - أحسن كل شيء خلقه . فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب ، وحسن التقويم ، وحسن التعديل . . فيه فضل عناية بهذا المخلوق .
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق - على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد - لتشير إلى أن له شأنا عند الله ، ووزنا في نظام هذا الوجود . وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق ، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد ، أم في تكوينه العقلي الفريد ، أم في تكوينه الروحي العجيب .
أحسن تقويم : أكمل تعديل : وأحسن صورة .
4- لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
أي : أقسم بالتين والزيتون ، وبجيل طور سينين ، وبمكة البلد الأمين ، لقد خلقنا الإنسان في أحسن ما يكون من التعديل والتقويم ، صورة ومعنى .
فقد خلق الله الإنسان معتدل القامة ، جميل الصورة ، وفي وجهه للنظر عينان ، وللسمع أذنان ، ولسان وشفتان ، ومنحه الله يدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعقلا يفكر به ، ونفخ الله فيه من روحه ، وأسجد له الملائكة ، وكرّمه الله تكريما عظيما ، وفضّله على كثير من مخلوقاته ، فصدر الإنسان آية ، وبطنه آية ، وفرجه آية ، إلى جوار الأجهزة المتعددة الموجودة في الإنسان كالجهاز الهضمي ، والجهاز العصبي ، والجهاز التناسلي ، ثم ميّزه الله بالإرادة والاختيار ، والعقل والفكر ، وأرسل الله له الرسل ، وأنزل له الكتب .
قال القرطبي : ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ، إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه . اه .
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وقال تعالى : ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا . ( الإسراء : 70 ) .
الأولى- قوله تعالى : " لقد خلقنا الإنسان " هذا جواب القسم ، وأراد بالإنسان : الكافر . قيل : هو الوليد بن المغيرة . وقيل : كلدة بن أسيد . فعلى هذا نزلت في منكري البعث . وقيل : المراد بالإنسان آدم وذريته . " في أحسن تقويم " وهو اعتداله واستواء شبابه ، كذا قال عامة المفسرين . وهو أحسن ما يكون ؛ لأنه خلق كل شيء منكبا عل وجهه ، وخلقه هو مستويا ، وله لسان ذلق ، ويد وأصابع يقبض بها . وقال أبو بكر بن طاهر : مُزيناً بالعقل ، مُؤدياً للأمر ، مَهدياً بالتمييز ، مديد القامة ، يتناول مأكوله بيده . ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن اللّه خلقه حيا عالما ، قادرا مريدا متكلما ، سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما . وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : [ إن اللّه خلق آدم على صورته ] يعني عل صفاته التي قدمنا ذكرها . وفي رواية [ على صورة الرحمن ] ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة ، فلم يبق إلا أن تكون معاني . وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزدي قال : أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي علي القاضي المحسن عن أبيه قال : كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر ، فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني . وبات بليلة عظيمة ، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور ، فأخبره الخبر ، وأظهر للمنصور جزعا عظيما ، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم . فقال جميع من حضر : قد طلقت ، إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة ، فإنه كان ساكتا . فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ؟ فقال له الرجل : بسم اللّه الرحمن الرحيم : " والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا البلد الأمين . لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " . يا أمير المؤمنين ، فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه . فقال المنصور لعيسى بن موسى : الأمر كما قال الرجل ، فأقبل على زوجتك . وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل : أن أطيعي زوجك ولا تعصيه ، فما طلقك . فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق اللّه باطنا وظاهرا ، جمال هيئة ، وبديع تركيب الرأس بما فيه ، والصدر بما جمعه ، والبطن بما حواه ، والفرج وما طواه ، واليدان وما بطشتاه ، والرجلان وما احتملتاه . ولذلك قالت الفلاسفة : إنه العالم الأصغر ؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه{[16189]} .
ولما كان هذا القسم مع كونه جامعاً لبدائع المصنوعات التي هي لما ذكر من حكمها دالة على كمال علم خالقها وتمام قدرته جامعاً لأكثر الذين آمنوا ، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أباهم مذكوراً مرتين بالأرض المقدسة من القدس ومكة ، فتوقع أكمل الخلق وأفطنهم المخاطب بهذا الذكر المقسم عليه علماً منه ببلوغ القسم إلى غايته واستوائه على نهايته ، أجيب بقوله تعالى محققاً : { لقد خلقنا } أي قدرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة الباهرة والعزة الغالبة القاهرة { الإنسان } أي هذا النوع الذي جمع فيه الشهوة والعقل وفيه الأنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه ، ولهذا قالت الملائكة عليهم الصلاة والسلام : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }[ البقرة : 30 ] لأنهم علموا أنه إذا جمع الغضب والشهوة إلى العقل جاءت المنازعة ، فيتولد الفساد من الشهوة ، والسفك من الغضب .
{ في أحسن تقويم * } أي كائن منا روحاً وعقلاً أو أعم من ذلك بما جعلنا له من حسن الخلق والخلق بما خص به من انتصاب القامة ، وحسن الصورة ، واجتماع خواص الكائنات ، ونظائر سائر الممكنات ، بعد ما شارك فيه غيره من السمع والبصر والذوق واللمس والشم الجوارح التي هيأته لما خلق له حتى قيل إنه العالم الأصغر كما مضى بسط ذلك في سورة الشمس ، ثم ميزناه بما أودعناه فيه بما جعلناه عليه من الفطرة الأولى التي لا تبديل لها من الطبع الأول السليم الذي هيأناه به ، وقويناه بقدرتنا لقبول الحق ، وبمثل ما قلته في حمل الآية على الفطرة الأولى قال الأصفهاني في تفسير
{ كان الناس أمة واحدة }[ البقرة : 213 ] في البقرة ، وقال ابن برجان هنا : مفطور على فطرة الإسلام الدين القيم ، ثم لما منحناه به من العقل المدرك القويم ، فكما جعلنا له شكلاً يميزه عن سائر الحيوان منحناه عقلاً يهديه إلى العروج عن درك النيران إلى درج الجنان بالإيمان والأعمال الصالحة البالغة نهاية الإحسان ، بدليل من فيه من الأنبياء الذين أكملهم محمد على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام والتابعين له بإحسان الذين ملأوا الأرض علماً وحكمةً ونوراً . قال البغوي : خلقه سبحانه وتعالى مديد القامة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعقل والتمييز - انتهى . والعقل هو المقصود في الحقيقة من الإنسان لأن من أسمائه اللب ، ومن المعلوم أن المقصود من كل شيء لبه وهو الشرع كما مضى في آخر النساء ، والظاهر أن عقول الناس بحسب الخلق متقاربة ، وأنها إنما تفاوتت بحسب الجبلة فبعضهم جعل سبحانه وتعالى عنصره وجبلته في غاية الفساد ، فلا تزال جبلته تردي على عقله فيتناقص إلى أن يصير إلى أسوأ الأحوال ، فكل ميسر لما خلق له ، وبعضهم يصرف عقله بحسب ما هيأه الله له إلى ما ينجيه ، وبعضهم يصرفه لذلك إلى ما يرديه ، لأنك تجد أعقل الناس في شيء وأعرفهم به أشدهم بلادة في شيء آخر ، وأغباهم في شيء أذكاهم في شيء آخر ، فاعتبر ذلك ، وبذلك انتظم أمر الخلق في أمر معاشهم بالعلوم والصنائع والأحوال ، والله الهادي ، وهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن التركيب والصورة لأنه لو كان في شيء منهما لكان هو الأحسن ، لأن كل صفة يشترك فيها الخلق والحق فالمبالغة للحق كالعالم والأعلم والكريم والأكرم ، قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري في تفسيره ، وصيغة " أفعل " لا تدل على ما قاله الزنادقة ، وإن عزي ذلك إلى بعض الأكابر من قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن الدرجة الواحدة تتفاوت إلى ما لا يدخل تحت حصر كتفاوت أفراد الإنسان في صوره وألوانه ، وغير ذلك من أكوانه وبديع شأنه ، وقد بينت ذلك في تصنيف مفرد لهذه الكلمة سميته : تهديم الأركان من " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، وأوضحته غاية الإيضاح والبيان ، وجرت فيه فتن تصم الآذان ، ونصر الله الحق بموافقة الأعيان ، وقهر أهل الطغيان ، ثم أردفته بكتاب " دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان " ثم شفيت الأسقام ، ودمغت الأخصام ، وخسأت الأوهام بالقول الفارق بين الصادق والمنافق ، وهو نحو ورقتين في غاية الإبداع في قطع النزاع ، ويمكن أن تكون صيغة أفعل مفيدة بالنسبة إلى شيء أراده الله بحيث إن نتفطن له نحن ؛ لأن من المجمع عليه عند أهل السنة وصرح به الأشعري وغيره في غير موضع من كتبهم أن الله تعالى لا تتناهى مقدوراته ، وممن صرح بما صرح به الأشعري وأكثر فيه الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتابه " الإحياء " وغيره ولا سيما كتابه " تهافت الفلاسفة " ، وبين أن هذا من قواعدهم لنفيهم صفة الإرادة ، وقولهم بأن فعله بالذات ، وبين فساد ذلك ، وأنه سبحانه وتعالى قادر على اختراع عالم آخر وثالث متفاوتة بالصغر والكبر ، وعلى كل ممكن ، وعرف أن الممكن هو المقدور عليه ، وأنه يرجع إلى المقدور عليه أيضاً ممكن ، وعرف الممتنع بأنه إثبات الشيء مع نفيه ، وإثبات الأخص مع نفي الأعم ، وإثبات الاثنين مع نفي الواحد ، وقال : وما لا يرجع إلى ذلك فهو ممكن ، فدخل فيه عالم أبدع من هذا العالم ، والله الموفق لما يريد .