ثم يعرض لهم صفحة وضيئة من ذلك الأجر الكريم ، في مشهد من مشاهد اليوم الذي يكون فيه ذلك الأجر الكريم .
" والمشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد - بين المشاهد القرآنية - وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسما قويا . فنحن الذين نقرأ القرآن اللحظة نشهد مشهدا عجيبا . هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم . ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا . ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم . فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت وأشعت نورا يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها . . إنه النور الذي أخرجها الله إليه وبه من الظلمات . والذي أشرق في أرواحها فغلب على طينتها . أم لعله النور الذي خلق الله منه هذا الكون وما فيه ومن فيه ، ظهر بحقيقته في هذه المجموعة التي حققت في ذواتها حقيقتها !
" ثم ها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات من تكريم وتبشير : ( بشراكم اليوم جنات تجري
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 14 ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
نورهم : نور العمل الصالح الذي يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة .
12- { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
هذا مشهد عظيم ، حين ترى المؤمنين والمؤمنات يتلألأ النور من أمامهم وعن أيمانهم ، إنه نور العمل الصالح ، يسير أمامهم ليستضيئوا به على الصراط ، وتكون وجوههم مضيئة كإضاءة القمر في سواد الليل ، وتبشّرهم الملائكة بالبساتين والنعيم المقيم ، والأنهار التي تجري من تحتهم : أنهار من لبن ، وأنهار من خمر ، وأنهار من عسل ، وأنهار من ماء نقي نظيف ، وتبشرهم الملائكة بالخلود الأبديّ السرمديّ ، وبالفوز بالجنة ونعيمها ، وبالرضوان الإلهي ، والكرامة والنعمة ، فهم أهل للنعيم الحسي في الجنة ، مع النعيم المعنوي في الكرامة والرضا الإلهي ، ورضوان من الله أكبر . . . ( التوبة : 72 ) .
{ لقد فاز المتقون فوزا عظيما } .
أخرج ابن أبي شيبة وغيره ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود أنه قال : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى .
{ 12-15 } { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } يقول تعالى -مبينا لفضل الإيمان واغتباط أهله به يوم القيامة- : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } أي : إذا كان يوم القيامة ، وكورت الشمس ، وخسف القمر ، وصار الناس في الظلمة ، ونصب الصراط على متن جهنم ، فحينئذ ترى المؤمنين والمؤمنات ، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، فيمشون بأيمانهم ونورهم في ذلك الموقف الهائل الصعب ، كل على قدر إيمانه ، ويبشرون عند ذلك بأعظم بشارة ، فيقال : { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فلله ما أحلى هذه البشارة بقلوبهم ، وألذها لنفوسهم ، حيث حصل لهم كل مطلوب [ محبوب ] ، ونجوا من كل شر ومرهوب .
ولما بين ما لهذا المقرض ، بين بعض وصفه بالكرم ببيان وقته فقال : { يوم } أي لهم ذلك في الوقت الذي { ترى } فيه بالعين{[62449]} ، وأشار إلى أن المحبوب من المال لا يخرج عنه ولا سيما مع{[62450]} الإقتار إلا من وقر الدين في قلبه بتعبيره بالوصف فقال : { المؤمنين والمؤمنات } أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة { يسعى } شعاراً لهم وأمارة على سعادتهم { نورهم } الذي يوجب إبصارهم لجميع ما ينفعهم فيأخذوه{[62451]} وما يضرهم فيتركوه{[62452]} ، وذلك بقدر أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها بنور العلم الذي هو ثمرة الإيمان كما أنهم قدموا المال الذي إنما يقتنيه الإنسان لمثل{[62453]} ذلك جزاء وفاقاً .
ولما كان من يراد تعظيمه يعطى ما يجب وما بعده شريفاً ( ؟ ) في الأماكن التي يحبها قال : { بين أيديهم } أي حيث ما توجهوا ، ولذلك حذف الجار { وبأيمانهم } أي{[62454]} وتلتصق بتلك الجهة لأن هاتين الجهتين أشرف جهاتهم ، وهم إما من السابقين ، وإما من أهل اليمين ، ويعطون صحائفهم من هاتين الجهتين ، والشقي بخلاف ذلك لا نور له ويعطى صحيفته بشماله ومن وراء ظهره ، فالأول نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقولة ، والثاني نور الإنفاق لأنه بالإيمان{[62455]} - نبه{[62456]} - عليه الرازي .
ولما ذكر نفوذهم فيما يحبون من الجهات وتيسيره لهم ، أتبعه ما يقال لهم من المحبوب في سلوكهم لذلك المحبوب فقال : { بشراكم اليوم } أي بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان .
ولما تشوفوا لذلك أخبروا بالمبشر به بقوله مخبراً إشارة إلى أن المخبر به يحسد من البشرى لكونه معدن السرور { جنات } أي كائنة لكم تتصرفون فيها أعظم تصرف ، والخبر في الأصل دخول ، ولكنه عدل عنه لما ذكر من المبالغة ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به فقال ؛ { تجري } وأفهم القرب بإثبات الجارّ فقال : { من تحتها الأنهار } ولما كان ذلك لا يتم مع خوف الانقطاع قال : { خالدين فيها } خلوداً لا آخر له لأن الله أورثكم ذلك ما لا يورث عنكم كما كان حكام الدنيا لأن الجنة لا موت فيها . ولما كان هذا أمراً سارّاً{[62457]} في ذلك المقام الضنك{[62458]} محباً بأمر استأنف مدحه بقوله : { ذلك } أي هذا الأمر العظيم جداً { هو } أي وحده { الفوز العظيم * } أي الذي ملأ بعظمته جميع الجهات من ذواتكم وأبدانكم ونفوسكم وأرواحكم .