وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة ، ورفعها على الأفق في إطار النور . يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة ، ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها . فريق المنافقين :
ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولن الأدبار ، ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون . لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ، بأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون . كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ، ولهم عذاب أليم . كمثل الشيطان إذ قال للإنسان : اكفر . فلما كفر قال : إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين . فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ، وذلك جزاء الظالمين . .
وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير ، ثم لم يفوا به ، وخذلوهم فيه ، حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب . ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر حقيقة ، وتمس قلبا ، وتبعث انفعالا ، وتقر مقوما من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق .
وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب : ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ) . فأهل الكتاب هؤلاء كفروا . والمنافقون إخوانهم ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام !
ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم : ( لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ) . .
والله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون ، ويؤكد غير ما يؤكدون : ( والله يشهد إنهم لكاذبون
{ أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 11 ) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ( 12 ) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ( 13 ) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ( 14 ) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 15 ) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 16 ) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 17 ) }
نافقوا : أظهروا غير ما أضمروا ، وبالغوا في إخفاء عقائدهم .
الإخوان : الأصدقاء ، واحدهم أخ ، والأخ من النسب جمعه إخوة .
11- { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
ألم تر : أسلوب يراد به التعجب من حال المتحدث عنه ، وبيان أن أمره غاية في الغرابة ، وموضع للدهشة والحيرة .
فهؤلاء قوم من منافقي المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون ، منهم عبد الله بن أُبيّ وشيعته ، رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع يحاصر بني النضير ويقاتلهم ، فأرسلوا إليهم يقولون لهم : إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا ولا نسلمكم لمحمد أبدا ، فجِدّوا في قتالهم ، ولا تهنوا في الدفاع عن دياركم وأموالكم ، حتى إذا اشتد الحصار ، وأوغل المسلمون في الدخول في ديارهم ، وتحريق نخيلهم ، وهدم بيوتهم ، رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، وأنهم بين أمرين :
1- الاستسلام وقبول حكم محمد صلى الله عليه وسلم فيهم .
وقد أدخل الله الرعب في قلوبهم ، فاختاروا الدنيّة ، وقبلوا الجلاء عن الديار ، واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود ، كما هو دأبهم في كل زمان ومكان .
ثم تعجب تعالى من حال المنافقين ، الذين طمعوا إخوانهم من أهل الكتاب ، في نصرتهم ، وموالاتهم على المؤمنين ، وأنهم يقولون لهم : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } أي : لا نطيع في عدم نصرتكم أحدا يعذلنا أو يخوفنا ، { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم .
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } الآية وذلك أن المنافقين ذهبوا الى بني النضير لما حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم محمد كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم وذلك قوله :{ لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا } سألنا خذلانكم { أبدا } فكذبهم الله تعالى فيما قالوا بقوله :{ والله يشهد إنهم لكاذبون } والآية الثانية وذكر أنهم ان نصروهم انهزموا ولم ينتصروا وهو قوله { ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } .
قوله تعالى :{ ألم تر إلى الذين نافقوا } تعجب{[14860]} من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون من النصر مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا . ومن جملة المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول ، وعبدالله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد . وقيل : رافعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، وقالوا ليهود قريظة والنضير . { لئن أخرجتم لنخرجن معكم } وقيل : هو من قول بني النضير لقريظة . { ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ، لا نطيعه في قتالكم . وفي هذا دليل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة علم الغيب ؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا ، وقوتلوا فلم ينصروهم ، كما قال الله تعالى :{ والله يشهد إنهم لكاذبون } أي في قولهم وفعلهم .
قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون 11 لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثم لا ينصرون 12 لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13 لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون 14 كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم 15 كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين 16 فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين } .
يبين الله في ذلك حقيقة المنافقين الكاذبين الذين يكنون في صدورهم الغيظ والكراهية للإسلام والمسلمين فهم يحرّضون الكافرين من أهل الكتب على قتال الرسول والمسلمين ، ويعدونهم بالنصرة والتأييد ويحلفون لهم أنهم لن يتخلوا عنهم إذا حوربوا ، والله يشهد إنهم لكاذبون . أولئك هم المنافقون المذبذبون الذين يتدسّسون في الظلام ليكيدوا للإسلام والمسلمين كيدا . وهم في كل الأحوال مخذولون مفضوحون ، فما يلبثون أن يظهروا وينكشفوا فيعلمهم الناس . فقال سبحانه : { ألم تر الى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يبين الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن المنافقين وفي طليعتهم عبد الله بن أبي ابن سلول - بعثوا ليهود بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتالهم - أن اثبتوا لقتال محمد والمسلمين فإنا مؤيدوكم وناصروكم ولن نتخلى عنكم . فلئن قاتلكم المسلمون قاتلنا معكم ولئن أخرجوكم فإنا خارجون معكم . فاغترّ اليهود بهذا القول من المنافقين وانتظروا منهم أن يعينوهم ويقاتلوا معهم لكنهم لم يجدوا منهم شيئا وقد قذف الله في قلوبهم الرعب فتولوا هاربين . وهو قوله : { لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } يعني لا نطيع أحدا يسألنا أن نخذلكم ونتخلى عنكم ، ولكننا معكم في التأييد والمناصرة ، { وإن قوتلتم لننصرنكم } يعني إن قاتلكم محمد والمسلمون فلسوف نكون معكم لمناصرتكم وتأييدكم . { والله يشهد إنهم لكاذبون } الله جل جلاله يشهد أن هؤلاء المنافقين كاذبون فيما وعدوا به بني النضير من العون والنصر .