ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية . ذلك أنهم تركوا الحق الثابت ، فمادت الأرض من تحتهم ، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدا :
( بل كذبوا بالحق لما جاءهم ، فهم في أمر مريج ) . .
وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت ، فلا يقر لهم من بعده قرار . .
إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه ، ولا تضطرب خطاه ، لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص . وكل ما حوله - عدا الحق الثابت - مضطرب مائج مزعزع مريج ، لا ثبات له ولا استقرار ، ولا صلابة له ولا احتمال . فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج ، وفقد الثبات والاستقرار ، والطمأنينة والقرار . فهو أبدا في أمر مريج لا يستقر على حال !
ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء ، وتتناوحه الهواجس ، وتتخاطفه الهواتف ، وتمزقه الحيرة ، وتقلقه الشكوك . ويضطرب سعيه هنا وهناك ، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال . وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين ، ولا بملجأ أمين . . فهو في أمر مريج . .
إنه تعبير عجيب ، يجسم خلجات القلوب ، وكأنها حركة تتبعها العيون !
بالحق : بالنبوة الثابتة بالمعجزات .
فهم في أمر مريج : فهم في أمر مضطرب ، من مَرَجَ الخاتم في أصبعه ، إذا تحرك واضطرب من الهزال .
5- { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } .
بل للإضراب والانتقال إلى ما هو أعظم من استبعادهم للبعث والحشر ، فهم قد كذبوا بالوحي الإلهي ، وهو القرآن الكريم ، وكذبوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته لما جاءهم ، وقالوا عن القرآن : أساطير الأولين ، وقالوا : أضغاث أحلام ، وقالوا : إنما يعلمه بشر ، وقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم : ساحر ، وشاعر ، وكاهن ، وكاذب ، وفقير ، وقالوا : إنه بشر ، هلا كان ملكا ، وقالوا غير ذلك مما يدل على اضطرارهم واختلالهم ، فهم لم يثبتوا على حال واحدة من القول ، والقرآن يصور اضطرابهم بحال إنسان يريد أن يوجه تهما متعددة لآخر ، فينتقل من رأي إلى آخر ، ولا يستقر على حال .
قال تعالى : { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } . ( الأنبياء : 5 ) .
ونلحظ أن القرآن هنا قد استعمل كلمة مناسبة في الرد عليهم حين قال :
أي : مضطرب مختلط ، بحيث لا يستقرون على حال ، يقال مرج الأمر -بزنة طرب- إذا اختلط وتزعزع وفقد الثبات والاستقرار والصلاح ، ومنه قولهم : مرجت أمانات الناس ، إذا فسدت وعمتهم الخيانة ، ومرج الخاتم في أصبع فلان ، إذا تخلخل واضطرب لشدة هزال صاحبه .
{ بل كذبوا بالحق لما جاءهم } هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أقبح من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة وما تضمنته من الإخبار بالحشر وغير ذلك ، وقال ابن عطية : هذا الإضراب عن كلام محذوف تقديره ما أجادوا النظر ونحو ذلك .
{ فهم في أمر مريج } أي : مضطرب لأنهم تارة يقولون شاعر وتارة ساحر وغير ذلك من أقوالهم وقيل : معناه منكر ، وقيل : ملتبس ، وقيل : مختلط .
ولما كان التقدير : وهم لا ينكرون ذلك من عظمتنا لأنهم معترفون بأنا خلقنا السماوات والأرض وخلقناهم من تراب وإنا نحن ننزل{[61078]} الماء فينبت{[61079]} النبات ، أضرب عنه بقوله : { بل كذبوا بالحق } أي الأمر الثابت الذي لا أثبت منه { لما } أي حين { جاءهم } لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ{[61080]} النفوس وغلبهم من الهوى ، حسداً منهم من غير تأمل لما قالوه ولا تدبر ، ولا نظر فيه ولا تفكر ، فلذلك قالوا ما لا يعقل من أن من قدر على إيجاد شيء من العدم وإبدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه وإفنائه .
ولما تسبب عن انتسابهم في هذا القول الواهي{[61081]} وارتهانهم في عهدته اضطرابهم{[61082]} في الرأي : هل يرجعون فينسبوا إلى الجهل والطيش والسفة والرعونة أم يدومون عليه فيؤدي ذلك مع كفرهم بالذي خلقهم إلى أعظم من ذلك من القتال والقتل ، والنسبة إلى الطيش والجهل ، قال معبراً عن هذا المعنى : { فهم } أي لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف { في أمر مريج * } أي مضطرب جداً مختلط ، من المرج وهو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة ، فهم تارة-{[61083]} يقولون : سحر ، وتارة كهانة ، وتارة شعر ، وتارة كذب ، وتارة غير ذلك ، والاضطراب موجب للاختلاف ، وذلك أدل دليل على الإبطال كما أن الثبات والخلوص موجب للاتفاق ، وذلك أدل دليل على الحقية{[61084]} ، قال الحسن : ما ترك قوم الحق{[61085]} إلا مرج أمرهم - وكذا قال قتادة{[61086]} ، وزاد : والتبس عليهم دينهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.