في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه . واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) . .

فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .

وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : ( إن بعض الظن إثم ) . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما !

بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون !

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم . بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إذا ظننت فلا تحقق " . . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم !

فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير ?

ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :

( ولا تجسسوا ) . .

والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .

والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .

ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا . فهو مبدأ من مباديء الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .

إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .

ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم ! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .

قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما يظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .

وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .

وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نفعه الله تعالى بها .

فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي ! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .

فأين هذا المدى البعيد ? وأين هذا الأفق السامق ? وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام ?

بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :

( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ) . .

لا يغتب بعضكم بعضا . ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتا . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب !

ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :

( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .

ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .

في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . [ ورواه الترمذي وصححه ] .

وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " قال عن مسدد تعني قصيرة " فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .

وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ? قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . .

ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى مر بجيفة حمار ، فقال : " أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .

وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

11

المفردات :

الظن : المراد به في الآية : الاتهام .

الإثم : الذنب .

التجسس : البحث عن العورات والمعايب ، والكشف عما ستره الناس .

الغيبة : ذكر الإنسان بما يكره في غيبته .

التفسير :

12- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } .

يا من آمنتم بالله ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، اجتنبوا ظن السوء بالمسلمين الذين ظاهرهم الصلاح ، أما من عرّض نفسه للتهم ، فدخل حانات الخمر ، أو جالس النساء الفاسدات ، فهو الذي عرض نفسه للشبهات ، ومن حقنا أن نظن به السوء .

{ إن بعض الظن إثم . . . }

أي : إن ظن السوء بأهل الخير ، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم ، موقع في الإثم لنهي الله عنه ، كما قال تعالى : { وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا } . ( الفتح : 12 ) . أي : هلكى .

روى مالك ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا )18 .

{ ولا تجسسوا . . . }

أي : لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، وتستكشفوا ما ستروه ، وتستطلعوا أسرارهم .

أخرج أبو داود وغيره ، عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه ، لا تتعبوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته )19 .

وأخرج الطبراني ، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة20 ، والحسد ، وسوء الظن ) ، فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هو فيه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حسدت فاستغفر ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض ) .

{ ولا يغتب بعضكم بعضا . . . }

الغيبة هي ذكر الإنسان في غيبته بالسوء ، في نفسه أو أسرته أو من يتصل بهم ، وفيها تقطيع لأواصر المودة الإنسانية ، وعدوان على الآخرين .

وقد ثبت في الصحيح من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال حين خطب في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) . رواه الشيخان عن أبي بكرة .

وقد نفّر القرآن الكريم من الغيبة ، حيث بين أن المغتاب يفترس لحوم الآخرين ، فقال تعالى :

{ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه . . . }

أي : هل يقبل أحدكم أن يأكل لحم أخيه حال كونه ميتا ، فهذه صورة كريهة ، أن تنهش لحم أخيك وهو غائب عنك ، وإذا كرهت هذه الصورة المزرية المهينة ، فابتعد عن الغيبة ، وتب إلى الله منها وكفر عنها ، بأن تذكر الناس بالخير ، وأن ترد غيبة المغتاب في غيبته .

{ واتقوا الله إن الله تواب رحيم } .

أي : راقبوا ربكم ، واعملوا بأوامره ، واجتنبوا نواهيه ، وتوبوا إليه ، واستقيموا على طاعته ، فإن الله تواب لمن تاب ، رحيم بعباده .

قال تعالى : { إن الله بالناس لرءوف رحيم } . ( البقرة : 142 ) .

قال الحسن :

الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله : الغيبة ، والإفك ، والبهتان .

1- فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه .

2- وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه .

3- وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه .

روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما الغيبة ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ( ذكرك أخاك بما يكره ) ، قيل : يا رسول الله ، أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهته )21 .

والمقصود من هذا صيانة أعراض الناس ، وتركهم إلى الله فيما بينهم وبينه .

قال العلماء والغزالي في الإحياء :

ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه ، بأن يقلع عنها ، ويندم على ما فرط منه ، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما صدر منه ، ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا ، لا يتوصل إليه إلا بها ، وينحصر ذلك في ستة أمور :

1- التظلم : فمن ظُلم فله أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه .

2- الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته .

3- الاستفتاء : فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا ، فهل يجوز له ذلك ؟

4- تحذير المسلمين : كجرح الشهود والرواة المتصدين للإفتاء مع عدم أهليتهم لذلك ، وكأن يشير -وإن لم يستشر- على مريد التزوج أو مخالطة غيره في أمر ديني أو دنيوي ، ويقتصر على ما يكفي ، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك .

5- أن يجاهروا بالفسق ، كالمدمنين على شرب الخمور ، وارتياد محال الفجور ، ويتباهوا بما يفعلون .

6- التعريف بلقب أو نحوه ، كالأعور والأعمش ونحو ذلك ، إذا لم تمكن المعرفة بغيره ، والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها ، مع ولوع الناس بها حتى أن بعضهم يقول : هي صابون القلوب ، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر ، وضراوة كضراوة الخمر .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } وهو أن يظن السوء

13 15 بأهل الخير وبمن لا يعلم منه فسق { ولا تجسسوا } لا تطلبوا عورات المسلمين ولا تبحثوا عن معايبهم { ولا يغتب بعضكم بعضا } لا تذكروا أحدكم بشيء يكرهه وإن كان فيه ذلك الشيء { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } يعني إن ذكرك أخاك على غيبة بسوء كأكل لحمه وهو ميت لايحس بذلك { فكرهتموه } إن كرهتم أكل لحمه ميتا فاكرهوا ذكره بسوء

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ اجتنبوا كثيرا من الظن } يعني : ظن السوء بالمسلمين ، وأما ظن الخير فهو حسن { إن بعض الظن إثم } قيل : في معنى الإثم هنا الكذب لقوله صلى الله عليه وسلم : " الظن أكذب الحديث لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر " ، وقيل : إنما يكون إثما إذا تكلم به وأما إذا لم يتكلم به فهو في فسخة لأنه لا يقدر على دفع الخواطر واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع لأنه أمر باجتناب كثير من الظن ، وأخبر أن بعضه إثم فأمر باجتناب الأكثر من الإثم احترازا من الوقوع في البعض الذي هو إثم .

{ ولا تجسسوا } أي : لا تبحثوا عن مخبآت الناس وقرأ الحسن تحسسوا بالحاء والتجسس بالجيم في الشر وبالحاء في الخير ، وقيل : التجسس ما كان من وراء والتحسس بالحاء الدخول والاستعلام .

{ ولا يغتب بعضكم بعضا } المعنى : لا يذكر أحدكم من أخيه المسلم ما يكره لو سمعه والغيبة هي ما يكره الإنسان ذكره من خلقه أو دينه أو أفعاله أو غير ذلك ، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " الغيبة أن تذكر أخاك المؤمن بما يكره " ، قيل : يا رسول الله وإن كان حقا ، قال : " إذا قلت باطلا فذلك بهتان " . وقد رخص في الغيبة في مواضع منها في التجريح في الشهادة والرواية والنكاح وشبهه وفي التحذير من أهل الضلال .

{ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } شبه الله الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ثم زاد في تقبيحه أن جعله ميتا لأن الجيفة مستقذرة ويجوز أن يكون ميتا حال من الأخ أو من لحمه وقيل : فكرهتموه إخبار عن حالهم بعد التقرير كأنه لما قررهم قال : هل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا أجابوا فقالوا : لا نحب ذلك فقال لهم : فكرهتموه وبعد هذا محذوف تقديره ، فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي تشبهه وحذف هذا لدلالة الكلام عليه وعلى هذا المحذوف يعطف قوله : { واتقوا الله } ، قاله أبو علي الفارسي ، وقال الرماني : كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل وهو أحق أن يجاب لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل ، وقال الزمخشري : في هذه الآية مبالغات كثيرة منها الاستفهام الذي معناه التقرير ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحد من الأحدين لا يحب ذلك ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله ميتا ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا له .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

ولما كان الإنسان ربما دعا صاحبه بلقب له شيء غير قاصد به عيبه ، أو فعل فعلاً يتنزل على الهزء غير قاصد به الهزء ، نهى تعالى عن المبادرة إلى الظن من غير تثبت لأن ذلك من وضع الأشياء في غير مواضعها ، الذي هو معنى الظلم{[60860]} فقال خاتماً بالقسم الخامس منبهاً على ما فيه من المعالي والنفائس : { يا أيها الذين آمنوا } أي اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أول مراتبه { اجتنبوا } أي كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم { كثيراً من الظن } أي في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا{[60861]} به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، والبحث عن ذلك الذي أوجب الظن ليس بمنهيّ عنه كما فتش النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وتثبت حتى جاءه{[60862]} الخبر اليقين من الله ، وأفهم هذا أن كثيراً منه مجتنب{[60863]} كما في الاجتهاد حيث لا قاطع ، وكما في ظن الخير بالله تعالى ، بل قد-{[60864]} يجب كما قال-{[60865]} تعالى :

{ ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً }[ النور : 12 ] وقد أفاد التنكير شياع النهي في كل ظن ، فكان بمعنى " بعض " مع الكفالة بأن كثيراً منه{[60866]} منهيّ عن الإقدام عليه إلا بعد تبين أمره ، ولو عرف لأفهم أنه لا يجتنب إلا إذا اتصف بالكثرة ، قال القشيري : والنفس لا تصدق ، والقلب لا يكذب ، والتمييز بين النفس والقلب مشكل ، ومن بقيت عليه من حظوظه بقية وإن قلت فليس له أن يدعى بيان القلب ، بل هو بنفسه ما-{[60867]} دام عليه شيء من بقيته ، ويجب عليه أن يتهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره ، ثم علل ذلك مشيراً إلى أن العاقل من يكف نفسه عن أدنى احتمال من الضرر احتمالاً مؤكداً لأن أفعال الناس عند الظنون أفعال من هو جازم بأنه{[60868]} بريء من الإثم : { إن بعض الظن إثم } أي ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين ، وحيث يخالفه قاطع ، قال الزمخشري{[60869]} رحمه الله تعالى : الهمزة في الإثم عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه .

ولما نهى عن اتباع الظن ، أتبعه ما يتفرع عنه فقال : { ولا تجسسوا } أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين .

ولما كانت الغيبة أعم من التجسس ، قال : { ولا يغتب } أي يتعمد أن يذكر { بعضكم بعضاً } في غيبته بما يكره ، قال القشيري : وليس تحصل الغيبة من الخلق إلا بالغيبة{[60870]} عن الحق ، وقال أبو حيان{[60871]} : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغيبة إدام كلاب{[60872]} الناس .

ولما كان تمزيق عرض الناس كتمزيق أديمهم ولا يكون{[60873]} ذلك ساتر عظمة{[60874]} الذي به قوامه{[60875]} كما أن عرضه{[60876]} ساتر عليه ، و{[60877]}كونه لا يرد عن نفسه بسبب غيبته كموته{[60878]} وأعمال الفم والجوف في ذلك كله ، وكان هذا لو تأمله{[60879]} العاقل كان منه على غاية النفرة ، ولكنه لخفائه لا يخطر بباله ، جلاه له في قوله تقريراً وتعبيراً بالحب عما{[60880]} هو في غاية الكراهة لما للمغتاب من الشهوة في الغيبة-{[60881]} ليكون التصوير بذلك رادّاً له عنها ومكرهاً فيها : { أيحب } وعم بقوله : { أحدكم } وعبر بأن والفعل تصويراً للفعل فقال : { أن يأكل } وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال : { لحم أخيه } وأنهى الأمر بقوله : { ميتاً } .

ولما كان الجواب قطعاً : لا يحب أحد ذلك ، أشار إليه بما سبب من قوله : { فكرهتموه } أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً ، لأن داعي العقل بصير عالم ، وداعي الطبع أعمى جاهل ، وقد رتب سبحانه هذه{[60882]} الحكم أبدع ترتيب ، فأمر سبحانه بالتثبت . وكان ربما أحدث ضغينة ، نهى عن العمل بموجبه من السخرية واللمز والنبز والتمادي مع ما ينشره ذلك من الظنون ، فإن أبت النفس{[60883]} إلا تمادياً مع الظن{[60884]} فلا يصل إلى التجسس والبحث عن المعايب ، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها ، وسعى في سترها ، وفعل ذلك كله لخوف الله ، لا شيء غيره ، فإن وقع في شيء من ذلك بادر المتاب رجاء الثواب .

ولما كان التقدير : فاتركوه بسبب كراهتهم لما صورته ، عطف عليه ما دل على العلة العظمى وهي{[60885]} خوف الله تعالى فقال : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين . ولما كان التقدير : فإن الله يتوب عليكم إن تركتموه ، علله بما دل على أن ذلك صفة له متكررة التعلق فقال : { إن الله } أي الملك الأعظم { تواب } أي مكرر للتوبة ، وهي الرجوع عن المعصية إلى ما-{[60886]} كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب ، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت{[60887]} { رحيم * } يزيده على ذلك أن{[60888]} يكرمه غاية الإكرام .


[60860]:من مد، وفي الأصل: الظالم.
[60861]:من مد، وفي الأصل: يخربوا.
[60862]:من مد، وفي الأصل: جاء.
[60863]:من مد، وفي الأصل: متجنب.
[60864]:زيد من مد.
[60865]:زيد من مد.
[60866]:من مد، وفي الأصل: منهم.
[60867]:زيد من مد.
[60868]:من مد، وفي الأصل: به.
[60869]:راجع البحر المحيط 8/114.
[60870]:في مد: من الغيبة.
[60871]:راجع البحر المحيط 8/114.
[60872]:من مد والبحر، وفي الأصل: كلام.
[60873]:من مد، وفي الأصل: جمعهم لأن.
[60874]:من مد، وفي الأصل: عظمهم.
[60875]:من مد، وفي الأصل: قوامهم.
[60876]:من مد، وفي الأصل: عرضهم.
[60877]:من مد، وفي الأصل: كونهم لا يردون عن أنفسهم بسبب غيبتهم كموتهم.
[60878]:من مد، وفي الأصل: كونهم لا يردون عن أنفسهم بسبب غيبتهم كموتهم.
[60879]:من مد، وفي الأصل: تعمده.
[60880]:من مد، وفي الأصل: بما.
[60881]:زيد من مد.
[60882]:من مد، وفي الأصل: هذا.
[60883]:من مد، وفي الأصل: النفوس.
[60884]:من مد، وفي الأصل: الذنب.
[60885]:من مد، وفي الأصل: هو.
[60886]:زيد من مد.
[60887]:زيد في الأصل: وجد الله، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60888]:من مد، وفي الأصل:"و".