سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون
هذه سورة هائلة رهيبة ؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة ؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آنا وبالجلال آنا ، وبالعذاب آنا ، وبالحركة القوية في كل آن !
والسورة بجملتها تلقي في الحس بكل قوة وعمق إحساسا واحدا بمعنى واحد . . أن هذا الأمر ، أمر الدين والعقيدة ، جد خالص حازم جازم . جد كله لا هزل فيه . ولا مجال فيه للهزل . جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان الله وحسابه . جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا . وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم ، وأخذه الحاسم . ولو كان الذي يتلفت عنه هو الرسول . فالأمر أكبر من الرسول وأكبر من البشر . . إنه الحق . حق اليقين . من رب العالمين .
يبرز هذا المعنى في اسم القيامة المختار في هذه السورة ، والذي سميت به السورة : " الحاقة " . . وهي بلفظها وجرسها ومعناها تلقي في الحس معنى الجد والصرامة والحق والاستقرار . وإيقاع اللفظ بذاته أشبه شيء برفع الثقل طويلا ، ثم استقراره استقرارا مكينا . رفعه في مدة الحاء بالألف ، وجده في تشديد القاف بعدها ، واستقراره بالانتهاء بالتاء المربوطة التي تنطق هاء ساكنة .
ويبرز في مصارع المكذبين بالدين وبالعقيدة وبالآخرة قوما بعد قوم ، وجماعة بعد جماعة ، مصارعهم العاصفة القاصمة الحاسمة الجازمة : كذبت ثمود وعاد بالقارعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى ، كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية ? وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ، فعصوا رسول ربهم ، فأخذهم أخذة رابية . إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية . . وهكذا كل من تلفت عن هذا الأمر أخذ أخذة مروعة داهمة قاصمة ، تتناسب مع الجد الصارم الحاسم في هذا الأمر العظيم الهائل ، الذي لا يحتمل هزلا ، ولا يحتمل لعبا ، ولا يحتمل تلفتا عنه من هنا أو هناك !
ويبرز في مشهد القيامة المروع ، وفي نهاية الكون الرهيبة ، وفي جلال التجلي كذلك وهو أروع وأهول : ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة . وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ، فيومئذ وقعت الواقعة ، وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . . والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . .
ذلك الهول . وهذا الجلال . يخلعان الجد الرائع الجليل على مشهد الحساب عن ذلك الأمر المهول . ويشاركان في تعميق ذلك المعنى في الحس مع سائر إيقاعات السورة وإيحاءاتها . هو وما بعده من مقالة الناجين والمعذبين : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه . . فقد نجا وما يكاد يصدق بالنجاة . . ( وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول : يا ليتني لم أوت كتابيه ، ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) . . بهذا التفجع الطويل ، الذي يطبع في الحس وقع هذا المصير . .
ثم يبدو ذلك الجد الصارم والهول القاصم في النطق العلوي بالقضاء الرهيب الرعيب ، في اليوم الهائل ، وفي الموقف الجليل : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . . وكل فقرة كأنها تحمل ثقل السماوات والأرض ، وتنقض في جلال مذهل ، وفي هول مروع ، وفي جد ثقيل . .
ثم ما يعقب كلمة القضاء الجليل ، من بيان لموجبات الحكم الرهيب ونهاية المذنب الرعيبة : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم . ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون . .
ثم يبرز ذلك المعنى في التلويح بقسم هائل ، وفي تقرير الله لحقيقة الدين الأخير : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون . إنه لقول رسول كريم . وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ، ولا بقول كاهن ، قليلا ما تذكرون . تنزيل من رب العالمين ) .
وأخيرا يبرز الجد في الإيقاع الأخير . وفي التهديد الجازم والأخذ القاصم لكل من يتلاعب في هذا الأمر أو يبدل . كائنا من كان ، ولو كان هو محمدا الرسول : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . . فهو الأمر الذي لا تسامح فيه ولا هوادة ولا لين . .
وعندئذ تختم السورة بالتقرير الجازم الحاسم والقول الفصل الأخير عن هذا الأمر الخطير : ( وإنه لتذكرة للمتقين . وإنا لنعلم أن منكم مكذبين . وإنه لحسرة على الكافرين . وإنه لحق اليقين . . فسبح باسم ربك العظيم ) . . وهو الختام الذي يقطع كل قول ، ويلقي بكلمة الفصل ، وينتهي إلى الفراغ من كل لغو ، والتسبيح باسم الله العظيم . .
ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكا ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة !
فهذه مصارع ثمود وعاد وفرعون وقرى لوط [ المؤتفكات ] حاضرة شاخصة ، والهول المروع يجتاح مشاهدها لا فكاك للحس منها . وهذا مشهد الطوفان وبقايا البشرية محمولة في الجارية مرسوما في آيتين اثنتين سريعتين . . ومن ذا الذي يقرأ : ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما . فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ? ) . . ولا يتمثل لحسه منظر العاصفة المزمجرة المحطمة المدمرة . سبع ليال وثمانية أيام . ومشهد القوم بعدها صرعى مجدلين ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ! ) .
وهو مشهد حي ماثل للعين ، ماثل للقلب ، ماثل للخيال ! وكذلك سائر مشاهد الأخذ الشديد العنيف في السورة .
ثم هذه مشاهد النهاية المروعة لهذا الكون . هذه هي تخايل للحس ، وتقرقع حوله ، وتغمره بالرعب والهول والكآبة . ومن ذا الذي يسمع : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) . . ولا يسمع حسه القرقعة بعد ما ترى عينه الرفعة ثم الدكة ! ! ومن الذي يسمع : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية . والملك على أرجائها ) . . ولا يتمثل خاطره هذه النهاية الحزينة ، وهذا المشهد المفجع للسماء الجميلة المتينة ? ! ثم من الذي لا يغمر حسه الجلال والهول وهو يسمع : ( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) . .
ومشهد الناجي الآخذ كتابه بيمينه والدنيا لا تسعه من الفرحة ، وهو يدعو الخلائق كلها لتقرأ كتابه في رنة الفرح والغبطة : هاؤم اقرؤوا كتابيه . إني ظننت أني ملاق حسابيه !
ومشهد الهالك الآخذ كتابه بشماله . والحسرة تئن في كلماته ونبراته وإيقاعاته : ( يا ليتني لم أوت كتابيه . ولم أدر ما حسابيه . يا ليتها كانت القاضية . ما أغنى عني ماليه . هلك عني سلطانيه ) .
ومن ذا الذي لا يرتعش حسه ، وهو يسمع ذلك القضاء الرهيب : خذوه ، فغلوه ، ثم الجحيم صلوه ، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه . . . الخ . . وهو يشهد كيف يتسابق المأمورون إلى تنفيذ الأمر الرهيب الجليل في ذلك البائس الحسير !
وحاله هناك : فليس له اليوم هاهنا حميم ، ولا طعام إلا من غسلين . لا يأكله إلا الخاطئون .
وأخيرا فمن ذا الذي لا تأخذه الرجفة وتلفه الرهبة ، وهو يتمثل في الخيال صورة التهديد الشديد : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ! ) . .
إنها مشاهد من القوة والحيوية والحضور بحيث لا يملك الحس أن يتلفت عنها طوال السورة ، وهي تلح عليه ، وتضغط ، وتتخلل الأعصاب والمشاعر في تأثير حقيقي عنيف !
ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة ، برنته الخاصة وتنوع هذه الرنة ، وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق . . فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة :
( الحاقة . ما الحاقة ? وما أدراك ما الحاقة ? ) . . إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها . سواء كانت تاء مربوطة يوقف عليها بالسكون ، أو هاء سكت مزيدة لتنسيق الإيقاع ، طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة ، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء . ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة : ( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . . . ) . . ثم يتغير مرة أخرى عند تقرير أسباب الحكم ، وتقرير جدية الأمر ، إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة مستقرة على الميم أو النون : نه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين . فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين . . ( وإنه لحق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . .
وهذا التغير في حرف الفاصلة وفي نوع المد قبلها وفي الإيقاع كله ظاهرة ملحوظة تتبع تغير السياق والمشاهدوالجو ، وتتناسق مع الموضوع والصور والظلال تمام التناسق . وتشارك في إحياء المشاهد وتقوية وقعها على الحس . في السورة القوية الإيقاع العميقة التأثير .
إنها سورة هائلة رهيبة . قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة . وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق !
( الحاقة . ما الحاقة ? . وما أدراك ما الحاقة ? ) . .
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة . ومن ثم تبدأ السورة باسمها ، وتسمى به ، وهو اسم مختار بجرسه ومعناه كما أسلفنا . فالحاقة هي التي تحق فتقع . أو تحق فتنزل بحكمها على الناس . أو تحق فيكون فيها الحق . . وكلها معان تقريرية جازمة تناسب اتجاه السورة وموضوعها . ثم هي بجرسها كما بينا من قبل تلقي إيقاعا معينا يساوق هذا المعنى الكامن فيها ، ويشارك في إطلاق الجو المراد بها ؛ ويمهد لما حق على المكذبين بها . في الدنيا وفي الآخرة جميعا .
والجو كله في السورة جو جد وجزم ، كما أنه جو هول وروع . وهو يوقع في الحس إلى جانب ما أسلفنا في التقديم ، شعورا بالقدرة الإلهية الكبرى من جهة ، وبضآلة الكائن الإنساني تجاه هذه القدرة من جهة أخرى ؛ وأخذها له أخذا شديدا في الدنيا والآخرة ، عندما يحيد أو يتلفت عن هذا النهج الذي يريده الله للبشرية ، ممثلا فيما يجيء به الرسل من الحق والعقيدة والشريعة ؛ فهو لا يجيء ليهمل ، ولا ليبدل ، إنما يجيء ليطاع ويحترم ، ويقابل بالتحرج والتقوى . وإلا فهناك الأخذ والقصم ، وهناك الهول والروع .
والألفاظ في السورة بجرسها وبمعانيها وباجتماعها في التركيب ، وبدلالة التركيب كله . . تشترك في إطلاق هذا الجو وتصويره . فهو يبدأ فيلقيها كلمة مفردة ، لا خبر لها في ظاهر اللفظ : ( الحاقة ) . .
( سورة الحاقة مكية ، وآياتها 52 آية ، نزلت بعد سورة الملك )
وهي نموذج للسورة المكية التي تستولي على القلوب بأهوالها ومشاهدها وأفكارها المتتابعة ، وفواصلها القصيرة .
في بداية السورة نلحظ هذه الرهبة من اسمها ، الحاقة ، لأن وقوعها حق يقيني ، ثم تصف مصارع المكذبين ، من ثمود إلى عاد إلى فرعون ، ثم تنتقل إلى مشاهد القيامة وأهوالها وصورها ، وتنوع الناس إلى فريقين : فريق يأخذ كتابه باليمين ، وفريق يأخذ كتابه بالشمال ، ويلقى كل فريق ما يستحق .
وفي المقطع الأخير من السورة تؤكد الآيات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنفي عنه تهم المشركين ، وتثبت أن القرآن حق يقين ، من عند رب العالمين .
1-3- الحاقة* ما الحاقة* وما أدراك ما الحاقة .
القيامة ومشاهدها وأحداثها تشغل معظم هذه السورة ، ومن ثم تبدأ السورة باسم من أسماء القيامة : الحاقة ، أي : الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء ، وهي آتية لا ريب فيها ، من : حق يحق بالكسر ، أي وجب .
وهذا المطلع يوحى بقدرة القدير ، وضعف الإنسان ، فهو لن يترك سدى ، بل أمامه يوم كله حق وعدل .
والألفاظ في السورة بهذا المعنى وتؤكده :
الحاقة ، ثم يتبعها باستفهام حافل بالاستهوال والاستعظام ، ما الحاقة . ما هي ؟ أي شيء هي ؟ أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها ، وهذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة في الغرض الذي يساق له .
وما أدراك ما الحاقة . أي شيء أعلمك ما هي ؟ فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقات لعظم شأنها ، ومدى هولها وشدتها ، ثم يسكت الأسلوب فلا يجيب على هذا السؤال ، لتذهب النفس في هوله وشدته كل مذهب .
ومن أسماء القيامة الحاقة ، والقارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها .
4-5- تصف الآيات ما أصاب ثمود من العذاب ، وثمود كانت تسكن الحجر في شمال الحجاز ، بين الحجاز والشام ، وقد كذبوا نبيهم ، فأرسل الله عليهم صيحة أهلكتهم ، وسميت الصيحة هنا طاغية لأنها جاوزت الحد في الشدة ، وسميت في سور أخرى بالصاعقة وبالرجفة وبالزلزلة ، وهي صفات للصيحة تبين أثرها فيمن نزلت بهم .
6-8- تصف الآيات قصة هلاك عاد ، وقد كذبوا رسولهم ، فأرسل الله عليهم ريحا باردة عاتية ، استمرت سبع ليال وثمانية أيام ، حسوما : متتابعة ، حتى هلك القوم أجمعون ، وقد كانوا يسكنون بالأحقاف ، في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت ، وكانوا أشداء بطّاشين جبّارين ، وكان الجزاء من جنس العمل .
9-10- تصف مجيء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات الله ، كقوم نوح وعاد وثمود ، والقرى التي ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت بهم ، وهي قرى قوم لوط ، فقد عصى هؤلاء رسل الله الذين أرسلوا إليهم ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .
11- 12- ترسم الآيتان مشهد الطوفان والسفينة الجارية ، تشير بهذا المشهد إلى مصرع قوم نوح حين كذبوا ، وتمتن على البشر بنجاة أصولهم التي انبثقوا منها ، والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته .
13- 18- تصف الآيات أهوال القيامة وأحداثها ، فإسرافيل ينفخ في الصور ، وتسوى الأرض والجبال ، وتدك كالكرة فيستوى عاليها بأسفلها ، عندئذ نزلت النازلة ، وجاءت القيامة . وقد انفرط عقد الكون المنظور ، واختلت روابطه وضوابطه التي تمسك به ، فترى السماء مشققه واهية مسترخية ، ساقطة والعرش فوقهم يحمله ثمانية : ثمانية أملاك ، أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية أصناف ، أو طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم اله ولا ندرى نحن من هم ولا ما هم .
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . ( الحاقة : 18 ) . فالكل مكشوف : مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف المصير .
ألا إنه لأمر عصيب ، وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ، ما ظهر منه وما استتر ، أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله ، من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع .
19- 24- تصف الآيات مشهد المؤمن الناجي ، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة ، تملأ الفرحة جوانحه فيهتف : اقرؤوا كتابي فأنا من الناجين ، لقد أيقنت بالجزاء والحساب ، فيعيش حياة ناعمة ، في جنة عالية ، ثمارها قريبة التناول ، ويقول لهم ربهم جل ثناؤه : كلوا وتمتعوا جزاء عملكم السابق وطاعتكم لربكم .
25- 29- تصف الآيات حسرة المشرك ، وبؤسه ويأسه ، فهو يتمنى أنه لم يأت للموقف ، ولم يؤت كتابه ، ولم يدر ما حسابه ، كما يتمنى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية ، التي تنهي وجوده أصلا فلا يعود بعدها شيئا .
ثم يتحسر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه ، فلا المال أغنى أو نفع ، ولا السلطان بقى أو دفع ، والرنة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة ، وفي ياء العلة بعد المد بالألف ، في تحزن وتحسر تشعر بالحسرة والأسى والحزن العميق .
32- ثم يقال لملائكة العذاب : خذوه إلى جهنم ، فيبتدره سبعون ألف ملك ، كلهم يبادر إلى جعل الغلّ في عنقه ، ويتقدم ليصطلى نار الجحيم ويشوى بها ، ويدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا تلف على جميع جسمه ، وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ، ولكن الآية تكشف عن شدة العذاب وهوله ، حفظنا الله من عذاب النار .
33 ، 34- تذكر الآيتان أسباب العذاب و السعير ، فقد خلا قلب هذا الكافر من الإيمان بالله ، كما خلا قلبه من الرحمة بالعباد ، ومن العطف على المساكين ، ومن الحث على إطعامهم والبر بهم .
35- 37- ولهذا لا يجد له صديقا ولا حميما يؤنسه ، ولا يأكل إلا غسالة أهل جهنم من القيح والصديد ، وهو طعام لا يأكله إلا المذنبون ، المتصفون بالخطيئة ، فليتق الله كل غني في ماله ، وليعلم أن للمساكين والأرامل والشيوخ والأطفال حقا في هذا المال ، وسيترك المال لورثته ويسأل هو عن زكاته .
38- 43- إن الوجود أضخم بكثير مما يرى البشر ، والكون مملوء بعقول فعالة غير عقولنا .
( إن الإنسان قد يكون جهازا ، ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز ؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه ، والعلم لا يعلل من يتولى إدارته ، وكذلك لا يزعم أنه مادي ، لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله قد منح الإنسان قبسا من نوره " i .
والآيات تقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم ، وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة .
إن القرآن كلام الله ومنهج الله وشريعة الله ، وليس قول شاعر ولا قول كاهن ، إنما هو قول رسول أرسل به من عند الله ، فحمله إلى عباد الله بأمانة وإخلاص في تبليغ الرسالة .
44- 46- إن قدرة الله بالغة ، ولو كذب محمد علينا ، أو افترى بعضه ونسبه إلينا ، لعاجلناه بالعقوبة ، وأزهقنا روحه ، فكان كمن قطع وتينه . وهذا تصوير للهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، إذ يأخذه السياف بيمينه ، ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه .
47- لا يمنعنا أحد من عقوبة محمد والتنكيل به إذا افترى علينا .
48- 52- إن القرآن يذكر القلوب التقية فتتذكر ، أن الحقيقة التي جاء بها كامنة فيها فهو يثيرها ويذكرها فتتذكر ، أما المطموسة قلوبهم فهم يكذبون بهذا القرآن ، والقرآن حجة على الكافرين في الدنيا ، وحسرة عليهم إذا رأوا عذاب الآخرة .
وهذا القرآن عميق في الحق ، عميق في اليقين ، تنزيل من رب العالمين ، فعلينا أن نعظم الله وأن ننزهه ونجلّه ، ونعترف له بالقدرة والعظمة : فسبّح باسم ربك العظيم . ( الحاقة : 52 ) .
الخبر عن صعوبة القيامة ، وهلاك الأمم المكذبة لرسلها ، وذكر نفخة الصور ، وانشقاق السماوات ، وحال السعداء والأشقياء في قوت قراءة الكتب ، وذل الكفار مقهورين في أيدي الزبانية ، وإثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله ، وليس بقول شاعر ولا كاهن ، والأمر بالتسبيحii في قوله : فسبّح باسم ربك العظيم . ( الحاقة : 52 ) .
{ الحاقّة 1 ما الحاقّة 2 وما أدراك ما الحاقّة 3 كذّبت ثمود وعاد بالقارعة 4 فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية 5 وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية 6 سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية 7 فهل ترى لهم من باقية 8 وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة 9 فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية 10 إنا لمّا طغا الماء حملناكم في الجارية 11 لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية 16 }
الحاقّة : القيامة ، من حقّ الشيء إذا ثبت ووجب ، أي : الساعة الثابتة المجيء ، الواجبة الوقوع .
1 ، 2 ، 3- الحاقّة* ما الحاقّة* وما أدراك ما الحاقّة .
افتتاح يهول النفس والقلب ، افتتاح معجز رهيب ، يتحدث عن القيامة ، فهي حاقّة بمعنى أن عذابها حق الكافرين ، ونعيمها حق للمؤمنين ، وحسابها حقّ ليتميز الخبيث من الطيب .
ما الحاقّة . استفهام للتعظيم والاستهوال ، أي من حقها أن يستفهم عنها لعظم أهوالها .
أي شيء أعلمك بها أيها الرسول ؟ فهي خارجة عن دائرة علم المخلوقين لعظم شأنها وشدة هولها .
إنها سورة تستولي على النفس بجرسها وفواصلها ، وتتابع معانيها ، في قصم الجبّارين ، ووصف القيامة ، وما فيها من عذاب للمجرمين ونعيم للمؤمنين .
وقد ذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده في الصلاة قد بدأ سورة الحاقة ، فاستولت السورة على نفسه ، وأخذ بجلال القرآن وعظمته وبلاغته وبيانه وتتابع معانيه ، وأعلن إسلامه .