لهذا يعود فيأمرهم بالطاعة . الطاعة الحقيقية . لا طاعتهم تلك المعروفة المفهومة !
( قل : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) . .
( فإن تولوا )وتعرضوا ، أو تنافقوا ولا تنفذوا ( فإنما عليه ما حمل )من تبليغ الرسالة وقد قام به وأداه ( وعليكم ما حملتم )وهو أن تطيعوا وتخلصوا . وقد نكصتم عنه ولم تؤدوه : ( وإن تطيعوه تهتدوا )إلى المنهج القويم المؤدي إلى الفوز والفلاح . ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين )فليس مسؤولا عن إيمانكم ، وليس مقصرا إذا أنتم توليتم . إنما أنتم المسؤولون المعاقبون بما توليتم وبما عصيتم وبما خالفتم عن أمر الله وأمر الرسول .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } .
يقول تعالى ذكره : قُلْ يا محمد لهؤلاء المقسمين بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليُخرجُنّ وغيرهم من أمتك : أطِيعُوا اللّهَ أيها القوم فيما أمركم به ونهاكم عنه . وأطِيعُوا الرّسُولَ فإن طاعته لله طاعة . فإن تَوَلّوْا يقول : فإن تُعْرِضوا وتُدْبِروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نهاكم عنه ، وتأبَوا أن تُذْعنوا لحكمه لكم وعليكم . فإنّمَا عَلَيْهِ ما حُمّلَ يقول : فإنما عليه فعل ما أُمِر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم ، على ما كلّفه من التبليغ . وَعَلَيْكُمْ ما حُمّلْتُمْ يقول : وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما أَلزمكم وأوجب عليكم من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم .
وقلنا : إن قوله : فإنْ تَوَلّوْا بمعنى : فإن تتولوا ، فإنه في موضع جزم لأنه خطاب للذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرّسُولَ يدلّ على أن ذلك كذلك قوله : وَعَلَيْكُمْ ما حُمّلْتمْ ، ولو كان قوله : تَوَلّوْا فعلاً ماضيا على وجه الخبر عن غيب ، لكان في موضع قوله : وَعَلَيْكُمْ ما حُمّلْتُمْ وَعَلَيْهِمْ ما حُمّلُوا .
وقوله : وَإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا يقول تعالى ذكره : وإن تطيعوا أيها الناس رسول الله فيما يأمركم وينهاكم ، تَرْشُدوا وتصيبوا الحقّ في أموركم . وَما عَلى الرّسُولِ إلاّ البَلاغُ المُبِينُ يقول : وغير واجب على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلّغهم رسالته بلاغا يبين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به ، يقول : فليس على محمد أيها الناس إلا أداء رسالة الله إليكم وعليكم الطاعة وإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم تصيبون ، وإن عصيتموه بأنفْسكم فتوبقون .
تلقين آخر للرسول عليه الصلاة والسلام بما يَرُدّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذباً ، ويختلف معنى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم .
وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاماً مستقلاً غير معطوف .
وقوله : { فإن تولوا } يجوز أن يكون تفريعاً على فعل { أطيعوا } فيكونّ فعلُ { تولوا } من جملة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلاً مضارعاً بتاء الخطاب . وأصله : تَتَولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال . والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم ، فيكون ضميراً ف { عَلَيْه ما حُمِّلَ } عائدين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون تفريعاً على فعل { قل } أيْ فإذا قلت ذلك فَتَوَلَّوْا ولم يطيعوا الخ ، فيكون فعل { تولوا } ماضياً بتاء واحدة مُواجَهاً به النبي صلى الله عليه وسلم أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حُمِّلْتَ من التبليغ وعليهم ما حُمِّلوا من تَبِعَة التكليف . كمعنى قوله تعالى : { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين } في سورة النحل ( 82 ) فيكون في ضمائر فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } التفاتٌ . وأصل الكلام : فإنما عليك ما حُملتَ وعليهم ما حُمِّلوا . والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة .
وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين : معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد ، ومعنى من موعظة النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم وموادعة لهم . وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم . ونظيره قوله في سورة آل عمران ( 23 32 ) : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً } من الكتاب ( هم اليهود ) يُدعَوْن إلى كتاب الله } إلى قوله : { قل أطيعوا الله والرسول فإن تَولوا فإن الله لا يحب الكافرين } .
واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 4 ] وقوله : { ولا تَيمموا الخبيثَ منه تنفقون } [ البقرة : 267 ] وقوله : { ولا تَولوا عنه وأنتم تسمعون } في سورة الأنفال ( 20 ) ، وأما قوله تعالى في سورة القتال ( 38 ) { وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم } فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران .
والبلاغ : اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية . ومعنى كونه مبيناً أنه فصيح واضح .
وجملة : { وإن تطيعوه تهتدوا } إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله : { وعليكم ما حملتم } بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد .
وجملة { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } بيان لإبهام قوله : { ما حمل } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"قُل" يا محمد لهؤلاء المقسمين بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليُخرجُنّ وغيرهم من أمتك: "أطِيعُوا اللّهَ "أيها القوم فيما أمركم به ونهاكم عنه. "وأطِيعُوا الرّسُولَ" فإن طاعته لله طاعة.
"فإن تَوَلّوْا" يقول: فإن تُعْرِضوا وتُدْبِروا عما أمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نهاكم عنه، وتأبَوا أن تُذْعنوا لحكمه لكم وعليكم، "فإنّمَا عَلَيْهِ ما حُمّلَ" يقول: فإنما عليه فعل ما أُمِر بفعله من تبليغ رسالة الله إليكم، على ما كلّفه من التبليغ، "وَعَلَيْكُمْ ما حُمّلْتُمْ" يقول: وعليكم أيها الناس أن تفعلوا ما أَلزمكم وأوجب عليكم من اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى طاعته فيما أمركم ونهاكم...
وقوله: "وَإنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا" يقول تعالى ذكره: وإن تطيعوا أيها الناس رسول الله فيما يأمركم وينهاكم، تَرْشُدوا وتصيبوا الحقّ في أموركم.
"وَما عَلى الرّسُولِ إلاّ البَلاغُ المُبِينُ" يقول: وغير واجب على من أرسله الله إلى قوم برسالة إلا أن يبلّغهم رسالته بلاغا يبين لهم ذلك البلاغ عما أراد الله به، يقول: فليس على محمد أيها الناس إلا أداء رسالة الله إليكم وعليكم الطاعة وإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم تصيبون، وإن عصيتموه بأنفسكم فتوبقون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم" قال: فإنما على النبي ما أمر بتبليغ الرسالة "وعليكم ما حملتم" وأمرتم من الطاعة لله ورسوله...
وجائز أن يكون قوله: "فإنما عليه ما حمل" أي لا يسأل هو، ولا يؤاخذ بما عليكم، ولا تسألون أنتم، ولا تؤاخذون أيضا بما عليه؛ يسأل كل عما عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم. يريد: فإن تتولوا فما ضررتموه، وإنما ضررتم أنفسكم، فإنّ الرسول ليس عليه إلاّ ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدّى فقد خرج عن عهدة تكليفه، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم، فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلاّ ناصح وهاد، وما عليه إلاّ أن يبلغ ما له نفع في قبولكم، ولا عليه ضرر في توليكم، والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى المبين: كونه مقروناً بالآيات والمعجزات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة وإعمال الجهد في إنذارهم، والذي حمل الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي ما أُمرتم به من الطَّاعة، ولعلَّ التَّعبيرَ عنه بالتَّحميل للإشعارِ بثقله وكونِه مُؤنةً باقيةً في عهدتِهم بعدُ، كأنَّه قيل: وحيثُ توليتُم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحملِ الثَّقيلِ. وقولُه تعالى: {مَا حُمّلَ} محمولٌ على المُشاكلة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لهذا أكدت الآية التالية التي هي آخر الآيات موضع البحث هذا المعنى، وتقول للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول).
ثمّ تضيف الآية أنّ هذا الأمر لا يخرج عن إحدى حالتين: (فإن تولوا فإنّما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) ففي صورة العصيان فقد ادّى وظيفته وهو مسؤول عنها كما أنّكم مسؤولون عن أعمالكم حين أن وظيفتكم الطاعة، ولكن (وإن تطيعوه تهتدوا) لأنّه قائد لا يدعو لغير سبيل الله والحقّ والصواب.
في كل الأحوال (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين) وإنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلّف بإبلاغ الجميع ما أمر الله به، فإن أطاعوه استفادوا، وإنْ لم يُطيعوه خَسروا. وَلَيْسَ على النّبي أن يجبر الناس على الهداية وتقبّل دعوته.
وما يلفت النظر في الآية السابقة تعبيرها عن المسؤولية ب «الحملِ» الثقيل وهذا هو الواقع، فرسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تستوجب الإبلاغ عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الناس طاعته. إنّها لمسؤوليةٌ لا يطيق حملها إلاّ المخلصون.