( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين . الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهم من الساعة مشفقون . وهذا ذكر مبارك أنزلناه ، أفأنتم له منكرون ? ) .
ولقد سبق في سياق السورة أن المشركين كانوا يستهزئون بالرسول [ ص ] لأنه بشر . وأنهم كانوا يكذبون بالوحي ، ويقولون : إنه سحر أو شعر أو افتراء .
فها هو ذا يكشف لهم أن إرسال الرسل من البشر هي السنة المطردة ، وهذه نماذج لها من قبل . وأن نزول الكتب على الرسل ليس بدعة مستغربة فهاهما ذان موسى وهارون آتاهما الله كتابا .
ويسمى هذا الكتاب " الفرقان " وهي صفة القرآن . فهناك وحدة حتى في الاسم . ذلك أن الكتب المنزلة كلها فرقان بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، وبين منهج في الحياة ومنهج ، واتجاه في الحياة واتجاه . فهي في عمومها فرقان . وفي هذه الصفة تلتقي التوراة والقرآن .
وجعل التوراة كذلك ، ( ضياء )يكشف ظلمات القلب والعقيدة ، وظلمات الظلال والباطل . وهي ظلمات يتوه فيها العقل ويضل فيها الضمير . وإن القلب البشري ليظل مظلما حتى تشرق فيه شعلة الإيمان ، فتنير جوانبه ، ويتكشف له منهجه ، ويستقيم له اتجاهه ، ولا تختلط عليه القيم والمعاني والتقديرات .
وجعل التوراة كالقرآن ( ذكرا للمتقين )تذكرهم بالله ، وتبقى لهم ذكرا في الناس . وماذا كان بنو إسرائيل قبل التوراة ? كانوا أذلاء تحت سياط فرعون ، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستذلهم بالسخرة والإيذاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد آتينا موسى بن عمران وأخاه هارون الفرقان ، يعني به الكتاب الذي يفرق بين الحقّ والباطل . وذلك هو التوراة في قول بعضهم ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الفُرْقان قال : الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ الفرقان : التوراة حلالها وحرامها ، وما فرق الله به بين الحق والباطل .
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ قال : الفرقان : الحق آتاه الله موسى وهارون ، فرق بينهما وبين فرعون ، فقضى بينهم بالحقّ . وقرأ : وَما أنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ قال : يوم بدر .
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي قاله ابن زيد في ذلك أشبه بظاهر التنزيل ، وذلك لدخول الواو في الضياء ، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك ، لكان التنزيل : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء لأن الضياء الذي آتى الله موسى وهارون هو التوراة التي أضاءت لهما ولمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الحلال والحرام ، ولم يقصد بذلك في هذا الموضع ضياء الإبصار . وفي دخول الواو في ذلك دليل على أن الفرقان غير التوراة التي هي ضياء .
فإن قال قائل : وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان ، وإن كانت فيه واو فيكون معناه : وضياء آتيناه ذلك ، كما قال بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ وَحِفْظا ؟ قيل له : إن ذلك وإن كان الكلام يحتمله ، فإن الأغلب من معانيه ما قلنا . والواجب أن يوجه معاني كلام الله إلى الأغلب الأشهر من وجوهها المعروفة عند العرب ما لم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسليم له من حجة خبر أو عقل .
وقوله : وَذِكْرا للْمُتّقِينَ يقول : وتذكيرا لمن اتقى الله بطاعته وأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، ذكّرهم بما آتى موسى وهارون من التوراة .
عطف على جملة { بل قالوا أضغاث أحلام إلى قوله تعالى : { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] لإقامة الحجة على المشركين بالدلائل العقلية والإقناعية والزجرية ، ثم بدلائل شواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة الشاهدة بتنظير ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم بما أوتيه سلفه من الرسل والأنبياء ، وأنه ما كان بِدْعاً من الرسل في دعوته إلى التوحيد تلك الدعوة التي كذبه المشركون لأجلها مع ما تخلل ذلك من ذكر عناد الأقوام ، وثبات الأقدام ، والتأييد من الملك العلاّم ، وفي ذلك تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه بأن تلك سنة الرسل السابقين كما قال تعالى : { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا } في سورة [ الإسراء : 77 ] . فجاء في هذه الآيات بأخبار من أحوال الرسل المتقدمين .
وفي سَوق أخبار هؤلاء الرسل والأنبياء تفصيل أيضاً لما بُنيت عليه السورة من قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم } [ الأنبياء : 7 ] الآيات ، ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، ثم قوله تعالى : { قل إنما أنذركم بالوحي } [ الأنبياء : 45 ] . واتصالها بجميع ذلك اتصال محكم ولذلك أعقبت بقوله تعالى : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون } .
وابتدىء بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم العرب ولأن أثر إتيان موسى عليه السلام بالشريعة هو أوسع أثر لإقامة نظام أمة يلي عظمة شريعة الإسلام .
وافتتاح القصة بلام القسم المفيدة للتأكيد لتنزيل المشركين في جهل بعضهم بذلك وذهول بعضهم عنه وتناسي بعضهم إياه منزلة من ينكر تلك القصة .
ومحل التنظير في هذه القصة هو تأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب مبين وتلقي القوم ذلك الكتاب بالإعراض والتكذيب .
والفُرقَان : ما يُفرّق به بين الحق والباطل من كلام أو فعل . وقد سمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان لأن فيه كان مبدأ ظهور قوة المسلمين ونصرهم . فيجوز أن يراد بالفرقان التوراة كقوله تعالى : { وآتيناهما الكتاب المستبين } في [ سورة الصافات : 117 ] .
والإخبار عن الفرقان بإسناد إيتائه إلى ضمير الجلالة للتنبيه على أنه لم يَعْد كونَه إيتاء من الله تعالى ووحياً كما أوتي محمد عليه الصلاة والسلام القرآن فكيف ينكرون إيتاء القرآن وهم يعلمون أن موسى عليه السلام ما جاء إلا بمثله . وفيه تنبيه على جلالة ذلك المُوتَى .
ويجوز أن يراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المعجزة والسحر كقوله تعالى : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين } في [ سورة غافر : 23 ] . ويجوز أن يراد به الشريعة الفارقة بين العدل والجور كقوله تعالى : { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون } في [ سورة البقرة : 53 ] .
وعلى الاحتمالات المذكورة تجيء احتمالات في قوله تعالى الآتي : { وضياء وذكراً للمتقين } . وليس يلزم أن تكون بعض هذه الصفات قسيماً لبعض بل هي صفات متداخلة ، فمجموع ما أوتيه موسى وهارون تتحقق فيه هذه الصفات الثلاث .
والضياء : النور . يستعمل مجازاً في الهدى والعلم ، وهو استعمال كثير ، وهو المراد هنا وقد قال تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } في [ سورة المائدة : 44 ] .
والذكر أصله : خطور شيء بالبال بعد غفلة عنه . ويطلق على الكتاب الذي فيه ذكر الله ، فقوله تعالى { للمتقين } يجوز أن يكون الكلام فيه للتقوية فيكون المجرور باللام في معنى المفعول ، أي الذين اتصفوا بتقوى الله ، أي امتثال أوامره واجتناب ما نهى عنه ، لأنه يذكرهم بما يجهلون وبما يذهلون عنه مما علموه ويجدد في نفوسهم مراقبة ربّهم . ويجوز أن يكون اللام للعلة ، أي ذكر لأجل المتقين ، أي كتاب ينتفع بما فيه المتقون دون غيرهم من الضالين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.