في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (140)

136

وإن الإنسان ليعجب ، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات ، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات . . يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه ، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم . ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون . ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير . . نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم ، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها ، والسير فيها بلا ضابط ، سوى الوهم والهوى والتقليد . وأمامهم التوحيد البسيط الواضح ؛ يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة ؛ ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى ؛ ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها ؛ ويطلق " الإنسان " من العبودية للعبيد - سواء فيما يشترعونه من قوانين ، وما يصنعونه من قيم وموازين - ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة ، وتصورا واضحا ميسرا مريحا ، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة ، وانطلاقا من العبودية للعبيد ، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده . . المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء !

ألا إنها الخسارة الفادحة - هنا في الدنيا قبل الآخرة - حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم ؛ وتتردى في حمأة الجاهلية ؛ وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد :

( قد خسر الذين قتلوا أولادهم - سفها بغير علم - وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) . .

خسروا الخسارة المطلقة . خسروا في الدنيا والآخرة . خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم . خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم . خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره ؛ وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد ؛ حين أسلموها لحاكمية العبيد ! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة ، خسروا الخسارة المؤكدة ، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه :

( قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (140)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوَاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .

يقول تعالى ذكره : قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذب ، العادلون به الأوثان والأصنام ، الذين زيّن لم شركاؤهم قتل أولادهم ، وتحريم ما حرّمت عليهم من أموالهم ، فقتلوا طاعة لها أولادهم ، وحرّموا ما أحلّ الله لهم ، وجعله لهم رزقا من أنعامهم سفها منهم ، يقول : فعلوا ما فعلوا من ذلك جهالة منهم بما لهم وعليهم ، ونقص عقول ، وضعف أحلام منهم ، وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه من عظيم عقاب الله عليه لهم . افْتِرَاءً على الله يقول : تكذيبا على الله وتخرّصا عليه الباطل . قَدْ ضَلّوا يقول : قد تركوا محجة الحقّ في فعلهم ذلك ، وزالوا عن سواء السبيل . وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يقول : ولم يكن فاعلو ذلك على هدى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك ، وَلا كانُوا مُهْتَدِينَ للصواب فيها ولا موفقين له . ونزلت هذه الاَية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الاَيات ، من قوله : وَجَعَلُوا لله مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا الذين كانوا يبحرون البحائر ، ويسيبون السوائب ، ويئدون البنات . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة ، قوله : الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ قال : نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر ، كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى ، فإذا كانت الجارية التي تُوأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته وقال لها : أنت عليّ كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها فتخدّ لها في الأرض خَدّا ، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ، ثم يتداولنها ، حتى إذا أبصرته راجعا دسّتها في حفرتها ، ثم سوّت عليها التراب .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم ، فقال : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ وحَرّموا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغير عِلْمٍ فقال : هذا صنيع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويَغْذُو كلبه . وقوله : وَحَرّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ . . . الاَية ، وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا ، تحكّما من الشياطين في أموالهم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام ، قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ . . . الاَية .

وكان أبو رزين يتأوّل قوله : قَدْ ضَلّوا أنه معنيّ به قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال من قتل الأولاد وتحريم الرزق الذي رزقهم الله بأمور غير ذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، في قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ . . . إلى قوله : قَدْ ضَلّوا قال : قد ضلوا قبل ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (140)

هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث ، وقال عكرمة : وكان الوأد في ربيعة ومضر .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكان جمهور العرب لا يفعله ، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والاقتار ، وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء ، وقرأ ابن عامر وابن كثير : «قتّلوا » بتشديد التاء على المبالغة وقرأ الباقون : «قتلوا » بتخفيفها و { ما رزقهم الله } : هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب و { قد ضلوا } إخباراً عنهم بالحيرة وهو من التعجب بمنزلة قوله { قد خسر } ، { وما كانوا } يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد : وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين لكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالاً .