اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُوٓاْ أَوۡلَٰدَهُمۡ سَفَهَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُ ٱفۡتِرَآءً عَلَى ٱللَّهِۚ قَدۡ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (140)

هذا جواب قسم مَحْذُوف وقرأ ابن كثير{[15357]} وابن عامر ، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمان : " قَتَّلُوا " بالتشديد ؛ مُبَالغَة وتكثيراً ، والباقون{[15358]} بالتّخْفِيفِ .

و " سَفَهاً " نصب على الحالِ ، أي : ذوي سَفَهٍ أو على المَفْعُول من أجْلِه ، وفيه بُعْدٌ ؛ لأنه ليس عِلَّة بَاعِثة أو عَلَى أنه مصدر لِفِعْل مقدَّر ، أي : سَفَهُوا سَفَهاً أو على أنه مَصْدر على غير الصَّدْر ؛ لأن هذا القَتْل سَفَهٌ .

وقرأ{[15359]} اليماني " سُفَهاء " على الجَمْع ، وهي حال وهذه تقوِّي كون قراءة العامَّة مَصْدراً في موضع الحال ، حيث صرّح بها ، و " بِغَيْر علِمٍ " : إما حالٌ أيضاً وإما صِفَة ل " سَفَهاً " وليس بِذَاكَ .

فصل في إلزام الكفار الخسران

واعلم أنه -تبارك وتعالى- ذر فيما تقدَّم قَتْلهم أولادهم وتحريمهم ما رَزَقَهم الله ، ثم إنه -تبارك وتعالى- جمع هَذَيْن الأمْرَيْن في هذه الآية الكريمة ، وبيَّن ما لَزمهم على هذا الحكم هو الخُسْرَان والسَّفَاهة وعدم العِلم ، وتَحْرِيم ما رَزَقَهم الله والافتراء على اللَّه ، والضَّلال وعدم الاهْتِداء ، فهذه أمور سَبْعَة وكل واحد منها سَبَبٌ تامٌّ في حصول الذَّمِّ ، أما الخُسْرَان : فلأن الولد نِعْمة عَظِيمة على العَبْد من الله ، فمن سَعَى في إبْطَالهِ ، فقد خَسِر خُسْرَاناً عظيماً ، لاسيِّما يستحق على ذلك الإبْطَال الذَّم العَظِيم في الدُّنْيَا والعِقَاب في الآخرة ، أما لذم في الدُّنيا : فلأن النَّاسَ يَقُولون : قَتَلَ وَلَدَهُ خوفاً من أن يَأكُل طعامه ، وليس في الدُّنْيا ذَمٌّ أشد منه .

وأما العِقَاب في الآخِرة : فلأن قرابة الولادَة أعظم مُوجبات المحبَّة ، فمع حُصُولها إذا أقدم على إلْحاق أعْظَم المَضارِّ به ، كان ذلك أعْظَم الذُنُوب ، فكان مُوجباً لأعْظَم أنْواع العقاب .

وأما السَّفَاهة : فهي عِبَارة عن الخِفَّة المذمومة ؛ وذلك لأن قَتْل الولد إنما يكون للخَوف من الفَقْر ، والفقر وإن كان ضَرراً إلاَّ أن القَتْل أعْظَم منه ، وأيضاً فهذا القَتْل نَاجِزٌ وذلك الفقر مَوْهُوم ، فالتزام أعْظَم المضارِّ على سبيل القَطْع حَذَراً من ضرر موهُوم لا شَكَّ أنه سَفَاهة .

وأما قوله : " بِغَيْر عِلْمِ " فالمقصود أن هذه السِّفاهة إنما تولَّدت من عدم العلم ، ولا شك أن الجهل أعظم المُنْكَرات والقَبَائح .

وأما تَحْرِيم ما رَزَقَهُم اللَّه : فهو من أعْظَم أنْواع الحَمَاقَة ؛ لأنه يتبعه أعْظَم أنْوَاع العذاب .

وأما الافْتِراء على اللَّه : فلا شَكَّ أن الجُرْأة على اللَّه ، والافْتِرَاء عليه أعظم الذُّنُوب وأكبر الكبائر .

وأما الضلال : فهو عِبَارة عن الضَّلال عن الرُّشد في مصالح الدِّين ومنافع الدُّنْيَا .

وأم ا قوله : " وما كَانُوا مُهْتَدِين " فالفَائِدة فيه أنَّه قد يضِلُّ الإنْسَان عن الحقِّ ، إلا أنَّه يعُود إلى الاهتداء ، فبين - تبارك وتعالى- أنَّهُم قد ضَلُّوا ولم يَحْصل لهم الاهْتِداء قط ، وهذا نِهَاية المُبَالغة في الذِّمِّ{[15360]} .

فصل في نزول الآية

قال المفسِّرون : نزلت هذه الآية في رَبِيعة ومُضَر وبَعْض من العرب وغيرهم ، كانوا يَدْفِنُون البَنَات أحْيَاء مخافة السَّبْي والفَقْر ، وكان بنو كَنَانة لا يَفْعَلُون ذلك وحَرَّموا ما رَزَقَهُم اللَّه يعني بالبَحيرة والسَّائِبة والوَصيلة والحَامِي افترِاءً على اللَّهِ ، حيث قَالُوا : إن الله أمَرهُم بهذا { قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .


[15357]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/39، السبعة 271 النشر 2/266. الحجة لأبي زرعة 275 إعراب القراءات 1/172.
[15358]:ينظر: الدر المصون 3/199، المحرر الوجيز 2/353.
[15359]:ينظر: الدر المصون 3/199، والبحر المحيط 4/235.
[15360]:ينظر: الرازي 13/172.