وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : ( إني
سقيم ) . . لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات . فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق - وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح .
قال ذلك معبراً عن ضيقه وتعبه . وأفصح عنه ليتركوه وشأنه . ولم يكن هذا كذباً منه . إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم . وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه !
وقوله : إنّي سَقِيمٌ : أي طعين ، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به ، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه ، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد .
واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه : إنّي سَقِيمٌ وهو صحيح ، فرُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلاّ ثَلاثَ كَذَباتٍ » ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : ثني هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيَرَ ثَلاثِ كَذَباتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذاتِ اللّهِ ، قوله : إنّي سَقِيمٌ ، وقَولِهِ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وقوْلِهِ فِي سارّةَ : هِيَ أُخْتِي » .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ فِي شَيْءٍ قَطّ إلاّ فِي ثَلاَثٍ » ثم ذكر نحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن المسيب بن رافع ، عن أبي هريرة ، قال : «ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات ، قوله : إني سَقِيمٌ ، وقوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ، وإنما قاله موعظة ، وقوله حين سأله الملك ، فقال أختي لسارّة ، وكانت امرأته » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : «إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات ، ثنتان في الله ، وواحدة في ذات نفسه فأما الثنتان فقوله : إني سَقِيمٌ ، وقوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وقصته في سارة ، وذكر قصتها وقصة الملك » .
وقال آخرون : إن قوله إنّي سَقِيمٌ كلمة فيها مِعْراض ، ومعناها أن كلّ من كان في عقبة الموت فهو سقيم ، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر ، والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا القول ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحقّ دون غيره .
والمعنى : ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال : { إني سقيمٌ } ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل . والوجه : أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله : { فنظَرَ } تعقيب عرفي ، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها : { إني سقيم } والتي تفرع عليها قوله تعالى : { فراغ إلى أهله } [ الذاريات : 26 ] الخ .
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله : { نظرةً } إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] .
وقوله : { إني سقيمٌ } عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها . وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان . وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله : { فتولوا عنه مُدبرينَ } .
والسقيم : صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله : { بقلبٍ سليمٍ } [ الصافات : 84 ] . يقال : سَقِم بوزن مرِض ، ومصدره السَّقم بالتحريك ، فيقال : سقام وسقم بوزن قُفْل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.