في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

27

وهل من إسراف أشد من تجاوز حدود الله ؛ والتعدي على شريعته ، بالتغيير أو بالإهمال ؟

وفي الآية السابقة قرن الله قتل النفس بالفساد في الأرض ؛ وجعل كلا منهما مبررا للقتل ، واستثناء من صيانة حق الحياة ؛ وتفظيع جريمة إزهاق الروح . . ذلك أن أمن الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، وصيانة النظام العام الذي تستمتع في ظله بالأمان ، وتزاول نشاطها الخير في طمأنينة . . ذلك كله ضروري كأمن الأفراد . . بل أشد ضرورة ؛ لأن أمن الأفراد لا يتحقق إلا به ؛ فضلا على صيانة هذا النموذج الفاضل من المجتمعات ، وإحاطته بكل ضمانات الاستقرار ؛ كيما يزاول الأفراد فيه نشاطهم الخير ، وكيما تترقى الحياة الإنسانية في ظله وتثمر ، وكيما تتفتح في جوه براعم الخير والفضيلة والإنتاج والنماء . . وبخاصة أن هذا المجتمع يوفر للناس جميعا ضمانات الحياة كلها ، وينتشر من حولهم جوا تنمو فيه بذور الخير وتذوي بذور الشر ، ويعمل على الوقاية قبل أن يعمل على العلاج ، ثم يعالج ما لم تتناوله وسائل الوقاية . ولا يدع دافعا ولا عذرا للنفس السوية أن تميل إلى الشر وإلى الاعتداء . . فالذي يهدد أمنه - بعد ذلك كله - هو عنصر خبيث يجب استئصاله ؛ ما لم يثب إلى الرشد والصواب . .

فالآن يقرر عقوبة هذا العنصر الخبيث ، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية بحد الحرابة :

( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يصلبوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، أو ينفوا من الأرض . . . ذلك لهم خزي في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم . إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) . .

وحدود هذه الجريمة التي ورد فيها هذا النص ، هي الخروج على الإمام المسلم الذي يحكم بشريعة الله ، والتجمع في شكل عصابة ، خارجة على سلطان هذا الإمام ، تروع أهل دار الإسلام ؛ وتعتدي على أرواحهم وأموالهم وحرماتهم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عن مدى سلطان الإمام . ويرى بعضهم أن مجرد تجمع مثل هذه العصابة ، وأخذها في الاعتداء على أهل دار الإسلام بالقوة ، يجعل النص منطبقاعليها . سواء خارج المصر أو داخلة . وهذا هو الأقرب للواقع العملي ومجابهته بما يستحقه .

وهؤلاء الخارجون على حاكم يحكم بشريعة الله ؛ المعتدون على أهل دار الإسلام المقيمين للشريعة [ سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين بعهد ] لا يحاربون الحاكم وحده ، ولا يحاربون الناس وحدهم . إنما هم يحاربون الله ورسوله . حينما يحاربون شريعته ، ويعتدون على الأمة القائمة على هذه الشريعة ، ويهددون دار الإسلام المحكومة بهذه الشريعة . كما أنهم بحربهم لله ورسوله ، وحربهم لشريعته وللأمة القائمة عليها وللدار التي تطبقها ، يسعون في الأرض فسادا . . فليس هناك فساد أشنع من محاولة تعطيل شريعة الله ، وترويع الدار التي تقام فيها هذه الشريعة . .

إنهم يحاربون الله ورسوله . . وإن كانوا إنما يحاربون الجماعة المسلمة والإمام المسلم . فهم قطعا لا يحاربون الله - سبحانه - بالسيف ، وقد لا يحاربون شخص رسول الله - بعد اختياره الرفيق الأعلى - ولكن الحرب لله ورسوله متحققة ، بالحرب لشريعة الله ورسوله ، وللجماعة التي ارتضت شريعة الله ورسوله ، وللدار التي تنفذ فيها شريعة الله ورسوله .

كما أن للنص - في صورته هذه - مفهوما آخر متعينا كهذا المفهوم - هو أن السلطان الذي يحق له - بأمر الله - أن يأخذ الخارجين عليه بهذه العقوبات المقررة لهذه الجريمة ، هو السلطان الذي يقوم على شريعة الله ورسوله ، في دار الإسلام المحكومة بشريعة الله ورسوله . . وليس أي سلطان آخر لا تتوافر له هذه الصفة ، في أية دار أخرى لا يتوافر لها هذا الوصف . .

نقرر هذا بوضوح ، لأن بعض أذناب السلطة في كل زمان ، كانوا يفتون لحكام لا يستمدون سلطانهم من شريعة الله ولا يقومون على تنفيذ هذه الشريعة ، ولا يحققون وجود دار إسلام في بلادهم ، ولو زعموا أنهم مسلمون . . كانوا يفتون لهم بأن يأخذوا الخارجين عليهم بهذه العقوبات - باسم شريعة الله - بينما كان هؤلاء الخارجون لا يحاربون الله ورسوله ؛ بل يحاربون سلطة خارجة على الله ورسوله . .

إنه ليس لسلطة لا تقوم على شريعة الله في دار الإسلام ، أن تأخذ الخارجين عليها باسم شريعة الله . . وما لمثل هذه السلطة وشريعة الله ؟ إنها تغتصب حق الألوهية وتدعيه ؛ فما لها تتحكك بقانون الله وتدعيه ؟ !

. . إنما جزاء أفراد هذه العصابات المسلحة ، التي تخرج على سلطان الإمام المسلم المقيم لشريعة الله ؛ وتروع عباد الله في دار الإسلام ، وتعتدي على أموالهم وأرواحهم وحرماتهم . . أن يقتلوا تقتيلا عاديا . أو أن يصلبوا حتى يموتوا [ وبعض الفقهاء يفسر النص بأنه الصلب بعد القتل للترويع والإرهاب ] أو أن تقطع أيديهم اليمنى مع أرجلهم اليسرى . . من خلاف . .

ويختلف الفقهاء اختلافا واسعا حول هذا النص : إن كان للإمام الخيار في هذه العقوبات ، أم أن هناك عقوبة معينة لكل جريمة تقع من الخارجين .

ويرى الفقهاء في مذهب أبى حنيفة والشافعي وأحمد أن العقوبات مرتبة على حسب الجناية التي وقعت . فمن قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع ، ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، ومن أخاف السبيل ولكنه لم يقتل ولم يأخذ مالا نفي :

وعند مالك أن المحارب إذا قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه ، وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه ، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف . وأما إذا أخاف السبيل فقط ، فالإمام مخير في قتله أو صلبه أو قطعة أو نفيه . . ومعنى التخيير عندمالك أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام . فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه ، لأن القطع لا يدفع ضرره . وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعة من خلاف . وإن كان ليس له شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك وهو النفي والتعزير .

ونحن نختار رأي الإمام مالك في الفقرة الأخيرة منه ، وهي أن العقوبة قد توقع على مجرد الخروج وإخافة السبيل . لأن هذا إجراء وقائي المقصود منه أولا منع وقوع الجريمة ، والتغليظ على المفسدين في الأرض الذين يروعون دار الإسلام ؛ ويفزعون الجماعة المسلمة القائمة على شريعة الله في هذه الدار . وهي أجدر جماعة وأجدر دار بالأمن والطمأنينة والسلام .

كذلك يختلفون في معنى النفي من الأرض . . هل هو النفي من الأرض التي ارتكب فيها جريمته ؟ أم هو النفي من الأرض التي يملك فيها حريته وذلك بحبسه . أم هو النفي من الأرض كلها ولا يكون ذلك إلا بالموت ؟

ونحن نختار النفي من أرض الجريمة ، إلى مكان ناء يحس فيه بالغربة والتشريد والضعف ؛ جزاء ما شرد الناس وخوفهم وطغى بقوته فيهم . حيث يصبح في منفاه عاجزا عن مزاولة جريمته بضعف عصبيته ، أو بعزله عن عصابته !

( ذلك لهم خزي في الدنيا . . ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) . .

فالجزاء الذي يلقونه إذن في الدنيا لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة ، ولا يطهرهم من دنس الجريمة كبعض الحدود الأخرى . وهذا كذلك تغليظ للعقوبة ، وتبشيع للجريمة . . ذلك أن الجماعة المسلمة في دار الإسلام يجب أن تعيش آمنة . وذلك أن السلطة المسلمة القائمة على شريعة الله يجب أن تكون مطاعة . فهذا هو الوسط الخير الرفيع الذي يجب توفير الضمانات كلها لازدهاره . . وهذا هو النظام العادل الكامل الذي يجب أن يصان من المساس به . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . .

وهذا بيان من الله عزّ ذكره عن حكم الفساد في الأرض الذي ذكره في قوله : مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ أعلم عباده ما الذي يستحقّ المفسد في الأرض من العقوبة والنكال ، فقال تبارك وتعالى : لا جزاء له في الدنيا إلا القتل والصلب وقطع اليد والرجل من خلاف أو النفي من الأرض ، خزيا لهم وأما في الاَخرة إن لم يتب في الدنيا فعذاب عظيم .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الاَية . فقال بعضهم : نزلت في قوم من أهل الكتاب ، كانوا أهل موادعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فعرّف الله نبيه صلى الله عليه وسلم الحكم فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخير الله رسوله ، إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض فخير الله جلّ وعزّ نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم ، فإن شاء قتل ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه .

وقال آخرون : نزلت في قوم من المشركين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : قال : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . إلى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الاَية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل وليست تَحْرز هذه الاَية الرجل المسلم من الحدّ إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يُقَدَر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدّ الذي أصاب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث ، عن الحسن : إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال : نزلت في أهل الشرك .

وقال آخرون : ( ذكر من قال ذلك ) : بل نزلت في قوم من عُرَينة وعُكْل ارتدّوا عن الإسلام ، وحاربوا الله ورسوله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن أنس : أن رهطا من عُكل وعرينة أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله أنا أهل ضَرْع ولم نكن أهل ريف ، وإنا استوخمنا المدينة . فأمر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بَذوْد وراع ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها . فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا الذود ، وكفروا بعد إسلامهم . فأتِيَ بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم في الحرّة حتى ماتوا . فذكر لنا أن هذه الاَية نزلت فيهم : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل هذه القصة .

حدثنا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول : أخبرنا أبو حمزة ، عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل ، فقال : حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين ، فقال : كان ناس أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك عن الإسلام فبايعوه وهم كذبة ، وليس الإسلامَ يريدون . ثم قالوا : نا نجتَوي المدينة . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «هَذِهِ اللّقاحُ تَغْدُو عَلَيْكُمْ وَتَرُوحُ ، فاشْرَبُوا مِنْ أبْوَالِهَا وألْبانِها » . قال : فبينا هم كذلك إذ جاء الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قتلوا الراعي ، وساقوا النعم فأمر نبيّ الله فنُودي في الناس ، أن : يا خيل الله اركبي . قال : فركبوا لا ينتظر فارس فارسا . قال : فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ، قال : فكان نفيهم أن نفوهم ، حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين ، وقتل نبيّ الله منهم وصلب وقطع وسمل الأعين . قال : فما مثّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد . قال : ونهى عن المُثْلة ، وقال : «لا تُمَثّلوا بشَيْءٍ » قال : فكان أنس بن مالك يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم .

قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ، ومنهم من عرينة وناس من بجيلة .

حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا الحسن بن هناد ، عن عمرو بن هاشم ، عن موسى بن عبيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير ، قال : قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم قوم من عينة حفاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صحّوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم . قال جرير : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمل أعينهم ، وجعلوا يقولون : الماء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «النّار » حتى هلكوا . قال : وكره الله سمل الأعين ، فأنزل هذه الاَية : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . إلى آخر الاَية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن ، عن عروة بن الزبير ( ح ) . وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، وسعيد بن عبد الرحمن ، وابن سمعان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : أغار ناس من عرينة على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستاقوها وقتلوا غلاما له فيها ، فبعث في آثارهم فأُخِذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن عبد الله بن عمر أو عمرو ، شكّ يونس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزلت فيهم آية المحاربة .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : قدم ثمانية نفر من عكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلموا ، ثم اجتووا المدينة ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فقتلوا رعاتها ، واستاقوا الإبل . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قافة ، فأُتي بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وتركهم فلم يحسمهم حتى ماتوا .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا الوليد ، قال : ثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : كانوا أربعة نفر من عرينة وثلاثة من عكل ، فلما أُوتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينِهم ولم يحسمهم ، وتركهم يتلقمون الحجارة بالحرّة ، فأنزل الله جلّ وعزّ في ذلك : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ،

حدثني عليّ ، قال : حدثنا الوليد ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الاَية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الاَية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة ، قال أنس : فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستقاوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفَرْج الحرام .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا قال : أنزلت في سُودان عرينة ، قال : أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماء الأصفر ، فشكوا ذلك إليه ، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة ، فقال : «اشْرَبُوا منْ ألْبانِها وأبْوَالِهَا » . فشربوا من ألبانها وأبوالها ، حتى إذا صحّوا وبرءوا ، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل .

وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال : أنزل الله هذه الاَية على نبيه صلى الله عليه وسلم معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك ، لأن القصص التي قصها الله جلّ وعزّ قبل هذه الاَية وبعدها من قصص بني إسرائيل وأنبأئهم ، فأن يكون ذلك متوسطا منه يعرف الحكم فيهم وفي نظرائهم ، أولى وأحقّ . وقلنا : كان نزلو ذلك بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين ما فعل لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك . وإذ كان ذلك أولى بالاَية لما وصفنا ، فتأويلها : من أجل كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو سَعَى بفساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ، ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ، يقول : لساعون في الأرض بالفساد ، وقاتلو النفوس بغير نفس وغير سعي في الأرض بالفساد حربا لله ولرسوله ، فمن فعل ذلك منهم يا محمد ، فإنما جزاؤه أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .

فإن قال لنا قائل : وكيف يجوز أن تكون الاَية نزلت في الحال التي ذكرت من حال نقض كافر من بني إسرائيل عهده ، ومن قولك إن حكم هذه الاَية حكم من الله في أهل الإسلام دون أهل الحرب من المشركين ؟ قيل : جاز أن يكون ذلك كذلك ، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعَى في الأرض فسادا من أهل ذمتنا وملتنا واحد ، والذين عُنُوا بالاَية كانوا أهل عهد وذمة ، وإن كان داخلاً في حكمها كل ذمي ومليَ ، وليس يبطل بدخول من دخل في حكم الاَية من الناس أن يكون صحيحا نزولها فيمن نزلت فيه .

وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في العُرَنيين ، فقال بعضهم : ذلك حكم منسوخ ، نسخه نهيه عن المثلة بهذه الاَية ، أعني بقوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ في الأرْضِ فَسادا . . . الاَية ، وقالوا : أنزلت هذه الاَية عتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعرنيين .

وقال بعضهم : بل فِعْلُ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين حكم ثابت في نظرائهم أبدا ، لم يُنْسخ ولم يبدّل . وقوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ، حكم من الله فيمن حارب وسعى في الأرض فسادا بالحِرَابة . قالوا : والعرنيون ارتدوا وقتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله ، فحكمهم غير حكم المحارِب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام والذمة .

وقال آخرون : لم يَسْمُلِ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين ، ولكنه كان أراد أن يسمُل ، فأنزل الله جلّ وعزّ هذه الاَية على نبيه يعرّفه الحكم فيهم ونهاه عن سمل أعينهم . ذكر القائلين ما وصفنا :

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول اللهصلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حَسْمهم حتى ماتوا ، فقال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعَلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ، ولم يسمُل بعده مغيرهم . قال : وكان هذا القول ذُكِر لأبي عمرو ، فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الاَية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السّمْل .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأُتي بهم يعني العُرنيين فأراد أن يسمُل أعينهم ، فنهاه الله عن ذلك ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه .

واختلف أهل العلم في المستحقّ اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه ، فقال بعضهم : هو اللصّ الذي يقطع الطريق . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، عن عطاء الخراساني في قوله : إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا . . . الاَية ، قالا : هذا هو اللصّ الذي يقطع الطريق ، فهو محارب .

وقال آخرون : هو اللصّ المجاهر بلصوصيته ، المكابر في المصر وغيره . وممن قال ذلك الأوزاعي .

حدثنا بذلك العباس عن أبيه عنه .

وعن مالك والليث بن سعد وابن لهَيعة .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قلت لمالك بن أنس : تكون محاربة في المصر ؟ قال : نعم ، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصر أو خلاء ، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة ، قاطعا للسبيل والطريق والديار ، مخيفا لهم بسلاحه ، فقتْل أحدا منهم قتله الإمام كقتله المحارب ليس لوليّ المقتول فيه عفو ولا قَوَد .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا الوليد ، قال : سألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة ، قلت : تكون المحاربة في دور المصر والمدائن والقرى ؟ فقالا : نعم ، إذا هم دخلوا عليهم بالسيوف علانية ، أو ليلاً بالنيران . قلت : فقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا ؟ فقال : نعم هم المحاربون ، فإن قَتَلوا قتُلوا ، وإن لم يقتلوا وأخذوا المال قُطعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدار ، ليس من حارب المسلمين في الخلاء والسبيل بأعظم من محاربة من حاربهم في حريمهم ودُورهم .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا الوليد ، قال : قال أبو عمرو : وتكون المحاربة في المصر شُهِر على أهله بسلاحه ليلاً أو نهارا . قال عليّ : قال الوليد : وأخبرني مالك أن قتل الغيلة عنده بمنزلة المحاربة . قلت : وما قتل الغِيلة ؟ قال : هو الرجل يخدع الرجل والصبيّ ، فيدخله بيتا أو يخلوا به فيقتله ويأخذ ماله ، فالإمام ولي قتل هذا ، وليس لوليّ الدم والجرح قَوَد ولا قصاص .

وهو قول الشافعي . حدثنا بذلك عنه الربيع .

وقال آخرون : المحارب : هو قاطع الطريق فأما المكابر في الأمصار فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين . ومن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن داود بن أبي هند ، قال : تذاكرنا المحارب ونحن عند ابن هبيرة في ناس من أهل البصرة ، فاجتمع رأيهم أن المحارب ما كان خارجا من المصر . وقال مجاهد بما :

حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا قال : الزنا والسرقة ، وقتل الناس ، وإهلاك الحرث والنسل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد : وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا قال : الفساد : القتل ، والزنا ، والسرقة .

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : المحارب لله ورسوله من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم ، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حَرَابة .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربا للمسلمين على الظلم منه لهم أنه لهم محارب ، ولا خلاف فيه . فالذي وصفنا صفته ، لا شك فيه أنه لهم مناصب حربا ظلما . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان نصبه الحرب لهم في مصرهم وقراهم أو في سبلهم وطرقهم في أنه لله ولرسوله محارب بحربه من نهاه الله ورسوله عن حربه .

وأما قوله : وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا فإنه يعني : يعملون في أرض الله بالمعاصي من إخافة سبل عباده المؤمنين به ، أو سبل ذمتهم وقطع طرقهم ، وأخذ أموالم ظلما وعدوانا ، والتوثّب على على حُرَمهم فجورا وفسوقا .

القول في تأويل قوله تعالى : أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ .

يقول تعالى ذكره : ما للذي حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جلّ ثناؤه .

ثم اختلف أهل التأويل في هذه الحلال أتلزم المحارب باستحقاقه اسم المحاربة ، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه مختلفا باختلاف أجرامه ؟ ( فقال بعضهم : يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جرمه ، مختلفا باختلاف أجرامه ) ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَه . . . إلى قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : إذا حار ب فقَتَل ، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ المال وقَتَل ، فعليه الصلب إن ظُهِر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخذ ولم يقتُل ، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِر عليه قبل توبته . وإذا حارب وأخاف السبيل ، فإنما عليه النفي .

حدثنا ابن وكيع وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن حماد ، عن إبراهيم : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال : إذا خرج فأخاف االسبيل وأخذ المال ، قطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخاف السبيل ولم يأخذ المال وقتل ، صُلب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم فيما أُرى في الرجل يخرج محاربا ، قال : إن قطع الطريق وأخذ المال قطعت يده ورجله ، وإن أخذ المال وقَتَل قُتِل ، وإن أخذ المال وقتَل ومثّل : صُلب .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية . قال : إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل صُلب ، وإذا قتَل لم يعدُ ذلك قُتل ، وإذا أخذ المال لم يعد ذلك قُطع ، وإذا كان يفسد نُفي .

حدثني المثنى ، قال حدثنا الحماني ، قال حدثنا شريك ، عن سماك ، عن الحسن : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . إلى قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : إذا أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المالَ نُفي .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، قال : كان يقال : من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتل : قُطعت يده ورجله من خلاف . وإذا أخذ المال وقتَل : صُلب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أنه كان يقول في قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . إلى قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ حدود أربعة أنزلها الله . فأما من أصاب الدم والمال جميعا : صُلب وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال : قُتل ومن أصاب المال وكفّ عن الدم : قُطِع ومن لم يصب شيئا من هذا : نُفي .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ . قال : نهى الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يَسْمُل أعين العرنيين الذين أغاروا على لِقاحه ، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنزلها الله عليه . فنطر إلى من أخذ المال ولم يقتل فقطع يده ورجله من خلاف ، يده اليمنى ورجله اليسرى . ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالاً فقتله . ونظر إلى من أخذ المال وقَتل فصلبه . وكذلك ينبغي لكلّ من أخاف طريق المسلمين وقطع أن يصنع به إن أُخِذ وقد أخذ مالاً قطعت يده بأخذه المال ورجله بإخافة الطريق ، وإن قتل ولم يأخذ مالاً قتل ، وإن قتل وأخذ المال : صُلب .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، قال سمعت السديّ يسأل عطية العوفي ، عن رجل محارب خرج ، فأخذ ولم يصب مالاً ولم يُهْرِق دما . قال : النفي بالسيف وإن أخذ مالاً فيده بالمال ورجله بما أخاف المسلمين وإن هو قَتَل ولم يأخذ مالاً : قُتِل وإن هو قتل وأخذ المال : صُلِب . وأكبر ظني أنه قال : تُقطع يده ورجله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ، قال : هذا اللصّ الذي يقطع الطريق ، فهو محارب . فإن قَتل وأخذ مالاً : صُلِب وإن قتل ، ولم يأخذ مالاً : قُتل وإن أخذ مالاً ولم يَقتل : قُطِعت يده ورجله وإن أُخِذ قبل أن يفعل شيئا من ذلك : نُفي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير ، قال : من خرج في الإسلام محاربا لله ورسوله فقَتل وأصاب مالاً ، فإنه يُقْتل ويُصلب ومن قَتل ولم يُصب مالاً ، فإنه يقْتل كما قَتَل ومن أصاب مالاً ولم يقْتُل ، فإنه يقطع من خلاف وإن أخاف سبيل المسلمين نُفي من بلده إلى غيره ، لقول الله جلّ وعزّ : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُلولَهُ قال : كان ناس يسعون في الأرض فسادا وقتلوا وقطعوا السبيل ، فصَلَب أولئك . وكان آخرون حاربوا واستحلّوا المال ولم يَعْدُوا ذلك ، فقُطِعت أيديهم وأرجلهم . وآخرون حاربوا واعتزلوا ولم يَعْدُوا ذلك ، فأولئك أُخرِجوا من الأرض .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال ، قال : حدثنا قتادة ، عن مورّق العجلي في المحارب ، قال : إن كان خرج فقتَل وأخذ المَال : صُلب وإن قتَل ولم يأخذ المال : قُتِل وإن كان أخذ المال ولم يقتُل : قُطِع وإن كان خرج مشاقّا للمسلمين : نُفي .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوي ، عن حجاج ، عن عطية العوفي ، عن ابن عباس ، قال : إذا خرج المحارب وأخاف الطريق وأخذ المال : قُطِعت يده ورجله من خلاف فإن هو خرج فقتل وأخذ المال : قُطِعت يده ورجله من خلاف ثم صُلب وإن خرج فقَتل ولم يأخذ المال : قُتل وإن أخاف السبيل ولم يقتُل ولم يأخذ المال : نُفي .

حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير في هذه الاَية : إنّمَا جَزَءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا قالا : إن أخاف المسلمين ، فاقتطع المال ، ولم يسفك : قُطِع وإذا سفك دما : قُتِل وصُلِب وإن جمعهما فاقتطع مالاً وسفك دما : قُطِع ثم قُتِل ثم صلُب . كأنّ الصلب مُثْله ، وكأنّ القطع السّارِقُ وَالسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدَيهُما ، وكأن القتل . النفس بالنفس . وإن امتنع فإن من الحقّ على الإمام وعلى المسلمين أن يطلبوه حتى يأخذوه فيقيموا عليه حكم كتاب الله ، أو يُنْفَوْا من الأرض من أرض الإسلام إلى أرض الكفر .

واعتلّ قائلوا هذه المقالة لقولهم هذا ، بأن قالوا : إن الله أوجب على القاتل القود ، وعلى السارق القطع وقالوا : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لاَ يَحلّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمِ إلاّ بإحْدَى ثَلاثِ خِلالٍ : رَجُلٍ قَتَلَ فَقُتلَ ، وَرَجُلٍ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فَرُجمَ ، وَرَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلامهِ » قالوا : فحظر النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث ، فإما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالاً ، فذلك تقدّمٌ على الله ورسوله بالخلاف عليهما في الحكم . قالوا : ومعنى قول من قال : الإمام فيه بالخيار إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ المال فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل أو القتل والصلب ، أو قطع اليد والرجل من خلاف . وأما صلبه باسم المحاربة من غير أن يفعل شيئا من قتل أو أخذ مال ، فذلك ما لم يقله عالم .

وقال آخرون : الإمام فيه بالخيار أن يفعل أيّ هذه الأشياء التي ذكرها الله في كتابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن عطاء ، وعن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد في المحارب : أن الإمام مخير فيه أيّ ذلك شاء فعل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبيدة ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن إبراهيم : الإمام مخير في المحارب ، أيّ ذلك شاء فعل : إن شاء قتل ، وإن شاء قطع ، وإن شاء نفي ، وإن شاء صلب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن الحسن في قوله : إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبون اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . إلى قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : يأخذ الإمام بأيهما أحبّ .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال : الإمام مخير فيها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، قال : قال عطاء : يصنع الإمام في ذلك ما شاء : إن شاء قتل ، أو قطع ، أو نفي ، لقول الله : أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ فذلك إلى الإمام الحاكم يصنع فيه ما شاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ، قال : من شهر السلاح في فئة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظُفِر به وقُدِر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار ، إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : أخبرنا أبو هلال ، قال : أخبرنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، أنه قال في المحارب : ذلك إلى الإمام ، إذا أخذه يصنع به ما شاء .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي هلال ، قال : حدثنا هارون ، عن الحسن في المحارب ، قال : ذاك إلى الإمام يصنع به ما شاء .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ قال : ذلك إلى الإمام .

واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا : وجدنا العطوف التي بأو في القرآن بمعنى التخيير في كلّ ما أوجب الله به فرضا منها ، وذلك كقوله في كفارة اليمين : فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، وكقوله : فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ من صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ ، وكقوله : فَجَزَاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ منْكُمْ هَدْيا بالِغَ الكَعْبَةِ أوْ كَفّارَةُ طَعامِ مَساكِينَ أوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِياما . قالوا : فإذا كانت العطوف التي بأو في القرآن في كلّ ما أوجب الله به فرضا منها في سائر القرآن بمعنى التخيير ، فكذلك ذلك في آية المحاربين الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قدر عليه قبل التوبة .

وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا تأويل من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم ، فأوجب على مخيف السبيل منهم إذا قُدِر عليه قبل التوبة وقبل أخذ مال أو قتل : النفي من الأرض وإذا قُدِر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرّم قتلها : الصلب لما ذكرت من العلة قبل لقائي هذه المقالة . فأما ما اعتلّ به القائلون : إن الإمام فيه بالخيار من أن «أو » في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض ، فنقول : لا معنى له ، لأن «أو » في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها ، وقد بينت كثيرا من معانيها فيما مضى وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله . فأما في هذا الموضع فإن معناها : التعقيب ، وذلك نظير قول القائل : إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة ، أو يرفع منازلهم في عليين ، أو يسكنهم مع الأنبياء والصدّيقين . فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كلّ مؤمن آمن بالله ورسوله ، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب ومنزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه ، بل المعقول عنه أن معناه : أن جزاء المؤمن لم يخلو عند الله من بعض هذه المنازل ، فالمقتصد منزلته دون منزلة السابق بالخيرات ، والسابق بالخيرات أعلى منه منزلة ، والظالم لنفسه دونهما ، وكلّ في الجنة كما قال جلّ ثناؤه : جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها . فكذلك معنى المعطوف بأو في قوله : إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ . . . الاَية ، إنما هو التعقيب . فتأويله : إن الذي يحارب الله ورسوله ، ويسعى في الأرض فسادا ، لن يخلو من أن يستحقّ الجزاء بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عزّ ذكره ، لا أن الإمام محكّم فيه ، ومخير في أمره كائنة ما كانت حالته ، عظمت جريرته أو خَفّت لأن ذلك لو كان كذلك لكان للإمام قتل من شَهَر السلاح مخيفا السبيل وصلبه ، وإن لم يأخذ مالاً ولا قتل أحدا ، وكان له نفي من قَتل وأخذ المال وأخاف السبيل . وذلك قول إن قاله قائل خلاف ما صحت به الاَثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «لا يَحلّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلمٍ إلاّ بإحْدَى ثَلاثٍ : رَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً فَقُتِلَ ، أوْ زَنى بَعْدَ إحْصَانٍ فرُجِمَ ، أوِ ارْتَدّ عَنْ دِينِهِ » وخلاف قوله : «القَطْعُ فِي رُبْعِ دِينار فَصَاعِدا » وغير المعروف من أحكامه .

فإن قال قائل : فإن هذه الأحكام التي ذكرت كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب ، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به ؟ قيل له : فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه ، فإن ادّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكما خلاف الذي ذكرنا ، أكذبه جميع أهل العلم ، لأن ذلك غير موجود بنقل واحد ولا جماعة ، وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب . قيل له : فإن أحسن حالاتك أن يُسلّم لك أن ظاهر الاَية قد يحتمل ما قلت ، وما قاله من خالفك فما برهانك على أن تأويلك أولى بتأويل الاَية من تأويله . وبعد : فإذا كان الإمام مخيرا في الحكم على المحارب من أجل أنّ «أو » بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك ، أفله أن يصلبه حيا ويتركه على الخشبة مصلوبا حتى يموت من غير قتله ؟ فإن قال : ذلك له ، خالف في ذلك الأمة . وإن زعم أن ذلك ليس له ، وإنما له قتله ثم صلبه أو صلبه ثم قتله ، ترك علته من أن الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن «أو » تأتي بمعنى التخيير ، وقيل له : فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع ولم يكن له الخيار في الصلب وحده ، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى ؟ وقيل له : هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت وأبى ذلك حيث جعلته حيث جعلته له ، فرقٌ كم أصل أو قياس ؟ فلن يقول في أحدهما قولاً إلاّ ألزم في الاَخر مثله . وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك بما في إسناده نظر . وذلك ما :

حدثنا به عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الاَية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الاَية نزلت في أولئك النفر العرنيين ، وهم من بجيلة . قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرْج الحرام . قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب ، فقال : «من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورِجْلَه بإخافته . ومن قتل فاقتله . ومن قتل وأخاف السبيل واستحلّ الفرج الحرام فاصلبه » .

وأما قوله : أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنَ خِلافٍ فإنه يعني جلّ ثناؤه : أنه تقطع أيديهم مخالفا في قطعها قطع أرجلهم ، وذلك أن تقطع أيمن أيديهم وأشمل أرجلهم ، فذلك الخلاف بينهما في القطع . ولو كان مكان «من » في هذا الموضع «على » أو الباء ، فقيل : أو تقطع أيديهم وأرجلهم خلاف أو بخلاف ، لأدّيا عما أدت عنه «مِن » من المعنى .

واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في هذا الموضع . فقال بعضهم : هو أن يُطلب حتى يُقدر عليه ، أو يهرب من دار الإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أوْ يُنْفَوْا منَ الأرْضِ قال : يطلبهم الإمام بالخيل والرجال حتى يأخذهم ، قيقيم فيهم الحكم ، أو يُنفوا من أرض المسلمين .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : نفيه : أن يطلب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ يقول : أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني عبد الله بن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كتاب أنس بن مالك ، إلى عبد الملك بن مروان : أنه كتب إليه : «ونَفْيُه : أن يطلبه الإمام حتى يأخذه ، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جلّ وعزّ بما استحلّ » .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد ، قال : فذكرت ذلك لليث بن سعد ، فقال : نفيه : طلبه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ ، أو يخرجه طلبه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب ، إذا كان محاربا مرتدّا عن الإسلام . قال الوليد : وسألت مالك بن أنس ، فقال مثله .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا الوليد ، قال : قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد : وكذلك يطلب المحارب المقيم على إسلامه ، يضطره بطلبه من بلد إلى بلد حقّ يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين ، أو أقصى جوار المسلمين ، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك ؟ قالا : لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : أن يطلبوه حتى يعجزوا .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر نحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن عاصم ، عن الحسن : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : ينفى حتى لا يقدر عليه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : أخرجوا من الأرض أينما أدركوا ، أُخرجوا حتى يلحقوا بأرض العدوّ .

حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن الزهري في قوله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : نفيه : أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب .

حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : أخبرني سعيد ، عن قتادة : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : إذا لم يقتل ولم يأخذ مالاً ، طُلب حتى يعجِز .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، قال : ثني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، وعن أبي معاوية ، عن سعيد بن جبير : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ من أرض الإسلام إلى أرض الكفر .

وقال آخرون : معنى النفي في هذا الموضع : أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ قال : من أخاف سبيل المسلمين نُفي من بلده إلى غيره ، لقول الله عزّ وجلّ : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني يزيد بن أبي حبيب وغيره ، عن حبان بن شريح ، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في اللصوص ، ووصف له لصوصيتهم وحبسهم في السجون ، قال : قال الله في كتابه : إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُجارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، وترك : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ . فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : أما بعد ، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جلّ وعزّ : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ، وتركت قول الله : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ، فنبيّ أنت يا حبان ابن أمّ حبان لا تحرّك الأشياء عن مواضعها ، أتجرّدت للقتل والصلب كأنك عبد بني عقيل من غير ما أشبّهك به ؟ إذا أتاك كتابي هذا فانفهم إلى شغب .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني الليث ، عن يزيد وغيره بنحو هذا الحديث ، غير أن يونس قال في حديثه : كأنك عبد بني أبي عقال من غير أن أشبّهك به .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن الصلت كاتب حبان بن شريح ، أخبرهم أن حبان كتب إلى عمر بن عبد العزيز : أن ناسا من القبط قامت عليهم البينة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا ، وأن الله يقول : إنّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسادا أنْ يُقَتّلُوا أوْ يُصَلّبُوا أوْ تُقَطّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وسكت عن النفي ، وكتب إليه : فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم ، فليكتب بذلك . فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه ، قال : لقد اجتزأ حبان . ثم كتب إليه : إنه قد بلغني كتابك وفهمته ، ولقد اجتزأت كأنما كتبت بكتاب يَزِيدَ بن أبي مسلم أو عِلْج صاحب العراق من غير أن أشبهك بهما ، فكتبت بأوّل الاَية ثم سكتّ عن آخرها ، وإن الله يقول : أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبت به ، فاعقد في أعناقهم حديدا ، ثم غيبهم إلى شَغْبٍ وبَدَا .

قال أبو جعفر : شغب وبدا : موضعان .

وقال آخرون : معنى النفي من الأرض في هذا الموضع : الحبس ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب في قول من قال : معنى النفي من الأرض في هذا الموضع : هو نفيه من بلد إلى بلد غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه ، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه .

وإنما قلت ذلك أولى الأقوال بالصحة ، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن الله جلّ ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب : القتل أو الصلب ، أو قطع اليد والرجل من خلاف ، بعد القدرة عليه لا في حال امتناعه كان معلوما أن النفي أيضا إنما هو جزاؤه بعد القدرة عليه لا قبلها ، ولو كان هروبه من الطلب نفيا له من الأرض ، كان قطع يده ورجله من خلاف في حال امتناعه وحربه على وجه القتال بمعنى إقامة الحدّ عليه بعد القدرة عليه . وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عزّ وجلّ حدّا له بعد القدرة عليه . وإذ كان كذلك ، فمعلوم أنه لم يبق إلاّ الوجهان الاَخران ، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها أو السجن . فإذ كان كذلك ، فلا شكّ أنه إذا نفي من بلدة إلى أخرى غيرها فلم ينف من الأرض ، بل إنما نفي من أرض دون أرض . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الله جلّ ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض ، كان معلوما أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلاّ بحبسه في بقعة منها عن سائرها ، فيكون منفيا حينئذٍ عن جميعها ، إلاّ مما لا سبيل إلى نفيه منه . وأما معنى النفي في كلام العرب : فهو الطرد ، ومن ذلك قول أوس بن حجر :

يُنْفَوْنَ عَنْ طُرُقِ الكِرَامِ كمَا ***يَنْفِي المُطارِقُ ما يَلي القَرَدُ

ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كلّ شيء : النّفاية . وأما المصدر من نفيت ، فإنه النفي والنّفاية ، ويقال : الدلو ينفي الماء . ويقال لما تطاير من الماء من الدلو النفيّ ، ومنه قول الراجز :

كأنّ مَتْنَيْهِ مِنَ النّفيّ ***مَوَاقِعُ الطّيْرِ على الصّفِيّ

ومنه قيل : نَفَى شَعَرُه : إذا سقط ، يقال : حال لونك ونَفَى شعرك .

القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيا ولهمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : ذَلِكَ : هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا في الدنيا ، من قتل ، أو صلب ، أو قطع يد ورجل من خلاف لَهُمْ يعني : لهؤلاء المحاربين خِزْيٌ في الدّنْيَا يقول : هو لهم شرّ وعار وذلة ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الاَخرة ، يقال منه : أخزيت فلانا فخَزِيَ هو خِزْيا ، وقوله : وَلَهُمْ في الاَخرةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ يقول عزّ ذكره لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسوله وسعول في الأرض فسادا فلم يتوبوا من فعلهم ذلك ، حتى هلكوا في الاَخرة مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا ، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم ، يعني : عذاب جهنم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } أي يحاربون أولياءهما وهم المسلمون ، جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما . وأصل الحرب السلب والمراد به ههنا قطع الطريق . وقيل المكابرة باللصوصية وإن كانت في مصر . { ويسعون في الأرض فسادا } أي مفسدين ، ويجوز نصبه على العلة أو المصدر لأن سعيهم كان فسادا فكأنه قيل : ويفسدون في الأرض فسادا . { أن يقتلوا } أي قصاصا من غير صلب إن أفردوا القتل . { أو يصلبوا } أي يصلبوا مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال ، وللفقهاء خلاف في أنه يقتل ويصلب أو يصلب حيا ويترك أو يطعن حتى يموت . { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا . { أو ينفوا من الأرض } ينفوا من بلد إلى بلد بحيث لا يتمكنون من القرار في موضع إن اقتصروا على الإخافة . وفسر أبو حنيفة النفي بالحبس ، وأو في الآية على هذا للتفصيل ، وقيل : إنه للتخيير والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق . { ذلك لهم خزي في الدنيا } ذل وفضيحة . { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا جَزَـٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (33)

تخلُّص إلى تشريع عقاب المحاربين ، وهم ضرب من الجُناة بجناية القتل . ولا علاقة لهذه الآية ولا الّتي بعدها بأخبار بني إسرائيل . نزلت هذه الآية في شأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العُرنيّين ، وبه يشعر صنيع البخاري إذ ترجم بهذه الآية من كتاب التّفسير ، وأخرج عَقِبه حديث أنس بن مالك في العُرنيّينَ . ونصّ الحديث من مواضع من صحيحه : " قدم على النّبيء صلى الله عليه وسلم نَفَر من عُكْلٍ وَعُرَيْنَة فأسلموا ثمّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد استوْخَمْنَا هذه الأرض ، فقال لهم : هذه نَعَم لنا فاخْرُجوا فيها فاشرَبوا ألبانها وأبوالها " فخرجوا فيها فَشَرِبُوا من أبوالها وألبانها واستَصَحُّوا ، فَمَالوا على الرّاعي فقتلوه واطَّرَدُوا الذّوْد وارتَدّوا . فبعث رسول الله في آثارهم ، بعث جريرَ بن عبد الله في خيل فأدركوهم وقد أشرفوا على بلادهم ، فما تَرَجَّل النّهار حتّى جِيء بهم ، فأمر بهم ، فقُطعت أيديهم وأرجلُهم وَسُمِلَتْ أعْيُنُهم بمسامير أحميت ، ثُمّ حبَسهم حتّى ماتوا . وقيل : أمر بهم فأُلْقُوا في الحرّة يستسْقُون فما يُسقَوْن حتَّى ماتُوا . قال جماعة : وكان ذلك سنة ستّ من الهجرة ، كان هذا قبل أن تنزل آية المائدة . نقل ذلك مَوْلى ابنِ الطلاع في كتاب « الأقضيَة المَأثورة » بسنده إلى ابن جبير وابن سيرين ، وعلى هذا يكون نزولها نسخاً للحَدّ الّذي أقامَه النّبيء صلى الله عليه وسلم سواء كان عن وَحي أم عن اجتهادٍ منه ، لأنّه لمّا اجتهد ولم يغيّره الله عليه قبل وقوع العمل به فقد تقرّر به شرع . وإنّما أذن الله له بذلك العقاب الشّديد لأنّهم أرادوا أن يكونُوا قدوة للمشركين في التحيّل بإظهار الإسلام للتوصّل إلى الكيد للمسلمين ، ولأنّهم جمعوا في فعلهم جنايات كثيرة . قال أبو قِلابة : فماذا يُستبقى من هؤلاء قَتلوا النّفس وحاربوا الله ورسولَه وخوّفوا رسولَ الله . وفي رواية للطبري : نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين المسلمين عهد فنقضوه وقطعوا السّبيل وأفسدوا في الأرض . رواه عن ابن عبّاس والضحّاك . والصّحيح الأوّل . وأيّاما كان فقد نسخ ذلك بهذه الآية .

فالحصر ب { إنّما } في قوله { إنّما جزاء الّذين يحَاربُون } الخ على أصحّ الروايتين في سبب نزول الآية حصر إضافي ، وهو قصر قلب لإبطال أي لنسخ العقاب الّذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم على العُرَنِيّين ، وعلى ما رواه الطبري عن ابن عبّاس فالحصر أن لا جزاء لهم إلاّ ذلك ، فيكون المقصود من القصر حينئذٍ أن لا يُنقص عن ذلك الجزاء وهو أحد الأمور الأربعة . وقد يكون الحصر لردّ اعتقادٍ مُقدّر وهو اعتقاد من يستعظم هذا الجزاء ويميل إلى التّخفيف منه . وكذلك يكون إذا كانت الآية غير نازلة على سبب أصلاً .

وأيَّامّاً كان سبب النزول فإنّ الآية تقتضي وجوب عقاب المحاربين بما ذكر الله فيها ، لأنّ الحصر يفيد تأكيد النسبة . والتّأكيد يصلح أن يعدّ في أمارات وجوب الفل المعدود بعضها في أصول الفقه لأنّه يجعل الحكم جازماً .

ومعنى { يحاربون } أنّهم يكونون مقاتلين بالسّلاح عُدواناً لقصد المغنم كشأن المحارب المبادي ، لأنّ حقيقة الحرب القتال . ومعنى محاربة الله محاربة شرعه وقصد الاعتداء على أحكامه ، وقد عُلم أنّ الله لا يحارِبه أحد فذكره في المحاربة لتشنيع أمرها بأنّها محاربة لمن يغضب الله لمحاربته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بمحاربَة الرّسول الاعتداء على حكمه وسلطانه ، فإنّ العرنيّين اعتدوا على نَعم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتّخذة لتجهيز جيوش المسلمين ، وهو قد امتنّ عليهم بالانتفاع بها فلم يراعوا ذلك لكفرهم فما عاقب به الرّسول العرنيّين كان عقاباً على محاربة خاصّة هي من صريح البغض للإسلام . ثُمّ إنّ الله شرع حكماً للمحاربة الّتي تقع في زمن رسول الله وبعده ، وسوّى عقوبتها ، فتعيّن أن يصير تأويل { يحاربون الله ورسوله } المحاربة لجماعة المسلمين . وجعل لها جزاء عين جزاء الردّة ، لأنّ الردّة لها جزاء آخر فعلمنا أنّ الجزاء لأجل المحاربة . ومن أجل ذلك اعتبره العلماء جزاء لمن يأتي هذه الجريمة من المسلمين ، ولهذا لم يجعله الله جزاء للكفّار الّذين حاربوا الرّسول لأجل عناد الدّين ، فلهذا المعنى عُدّي { يحاربون } إلى { الله ورسوله } ليظهر أنّهم لم يَقصدوا حربَ معيَّن من النّاس ولا حرب صَفّ .

وعُطف { ويسعون في الأرض فساداً } لبيان القصدِ من حربهم اللّهَ ورَسوله ، فصار الجزاء على مجموع الأمرين ، فمجمُوعُ الأمرين سَبَب مركّب للعقوبة ، وكلّ واحد من الأمرين جزءُ سبب لا يقتضي هذه العقوبة بخصوصها .

وقد اختلف العلماء في حقيقة الحرابة ؛ فقال مالك : هي حمل السلاح على النّاس لأخذ أموالهم دون نائرة ولا دخَل ولا عداوة أي بين المحارب بالكسر وبين المحارَب بالفتح ، سواء في البادية أو في المِصر ، وقال به الشّافعي وأبو ثور . وقيل : لا يكون المحارب في المصر محارِباً ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق . والّذي نظر إليه مالك هو عموم معنى لفظ الحرابة ، والّذي نظر إليه مخالفوه هو الغالب في العرف لندرة الحرابة في المصر . وقد كانت نزلت بتونس قضية لصّ اسمه « ونّاس » أخاف أهل تونس بحيله في السرقة ، وكان يحمل السّلاح فحكم عليه بحكم المحارب في مدة الأمير محمد الصادق باي وقتل شنقاً بباب سويقة .

ومعنى { يسعون في الأرض فساداً } أنّهم يكتسبون الفساد ويجتنونه ويجترحونه ، لأنّ السعي قد استعمل بمعنى الاكتساب واللَّمّ ، قال تعالى : { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } [ الإسراء : 19 ] . ويقولون : سعَى فلان لأهله ، أي اكتسب لهم ، وقال تعالى : { لتجزي كُلّ نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] .

وصاحب « الكشاف » جعله هنا بمعنى المشي ، فجعل { فساداً } حالاً أو مفعولاً لأجله ، ولقد نظر إلى أنّ غالب عمل المحارب هو السعي والتنقّل ، ويكون الفعل منزّلاً منزلة اللازم اكتفاء بدلالة المفعول لأجله . وجَوّز أن يكون سعَى بمعنى أفسد ، فَجَعل { فساداً } مفعولاً مطلقاً . ولا يعرف استعمال سعى بمعنى أفسد .

والفساد : إتلاف الأنفس والأموال ، فالمحارب يقتل الرجل لأخذ ما عليه من الثّياب ونحو ذلك .

و { يُقتّلوا } مبالغة في يُقْتلوا ، كقول امرىء القيس :

في أعشار قَلْبٍ مُقَتَّل

قُصِد من المبالغة هنا إيقاعه بدون لين ولا رفق تشديداً عليهم ، وكذلك الوجه في قوله { يُصَلَّبوا } .

والصّلب : وضع الجاني الّذي يُراد قتله مشدوداً على خشبة ثُمّ قتله عليها طَعناً بالرّمح في موضع القتل . وقيل : الصّلب بَعْد القتل . والأول قول مالك ، والثّاني مذهب أشهب والشّافعي .

و { مِنْ } في قوله { مِن خلاف } ابتدائية في موضع الحال من { أيديهم وأرجلُهم } ، فهي قيد للقطع ، أي أنّ القطع يبتدىء في حال التخالف ، وقد علم أنّ المقطوع هو العضو المُخالف فتعيّن أنّه مخالِف لمقطوععٍ آخر وإلاّ لم تتصوّر المخالفة ، فإذا لم يكن عضو مقطوعٌ سابقٌ فقد تعذّر التخالف فيكون القطع للعضو الأوّل آنفاً ثُمّ تجري المخالفَةُ فيما بعدُ . وقد علم من قوله : { من خلاف } أنّه لا يقطع من المحارب إلاّ يد واحدة أو رجل واحدة ولا يقطع يداه أو رجلاه ؛ لأنّه لو كان كذلك لم يتصوّر معنى لكون القطع من خلاف . فهَذا التّركيب من بديع الإيجاز . والظاهر أنّ كون القطع مِن خلاف تيسير ورحمة ، لأنّ ذلك أمكن لحركة بقية الجهد بعد البرء وذلك بأنّ يتوكّأ باليد الباقية على عُود بجهة الرّجل المقطوعة .

قال علماؤنا : تقطع يده لأجل أخذ المال ، ورجلُه للإخافة ؛ لأنّ اليد هي العضو الّذي به الأخذ ، والرّجل هي العضو الّذي به الإخافة ، أي المشي وراء النّاس والتعرّض لهم .

والنّفي من الأرض : الإبعاد من المكان الّذي هو وطنه لأنّ النّفي معناه عدم الوجود . والمراد الإبعاد ، لأنّه إبعاد عن القوم الّذين حاربوهم . يقال : نفوا فلاناً ، أي أخرجوه من بينهم ، وهو الخليع ، وقال النّابغة :

ليُهنىء لكم أنْ قَدْ نَفَيْتُم بُيُوتنا

أي أقصيتمونا عن دياركم . ولا يعرف في كلام العرب معنى للنّفي غير هذا . وقال أبو حنيفة وبعض العلماء : النّفي هو السجن . وحمَلهم على هذا التأويل البعيد التفادي من دفع أضرار المحارب عنْ قوم كانَ فيهم بتسليط ضُرّه على قوم آخرين . وهو نظر يَحمل على التّأويل ، ولكن قد بيّن العلماء أنّ النّفيَ يحصل به دفع الضرّ لأنّ العرب كانوا إذا أخرج أحد من وظنه ذُلّ وخُضدت شوكته ، قال امرؤ القيس :

به الذئْب يعوي كالخليع المُعَيَّل

وذلك حال غير مختصّ بالعرب فإنّ للمرء في بلده وقومه من الإقدام ما ليس له في غير بلده . على أنّ من العلماء من قال : ينفون إلى بلد بعيد منحاز إلى جهة بحيث يكون فيه كالمحصور .

قال أبو الزناد : كان النّفي قديماً إلى ( دَهْلَكَ ) وإلى ( بَاضِع ){[221]} وهما جزيرتان في بحر اليمن .

وقد دلّت الآية على أمرين : أحدهما : التخيير في جزاء المحاربين ؛ لأنّ أصل ( أو ) الدلالة على أحد الشيئين أو الأشياء في الوقوع ، ويقتضي ذلك في باب الأمر ونحوه التخيير ، نحو { ففدية من صيام أو صدقة أو نُسك } [ البقرة : 196 ] . وقد تمسّك بهذا الظّاهر جماعة من العلماء منهم مالك بن أنس ، وسعيدُ بن المسيّب ، وعطاء ، ومجاهد ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، والمرويّ عن مالك أنّ هذا التخيير لأجل الحرابة ، فإن اجترح في مدّة حرابته جريمة ثابتة توجب الأخذَ بأشدّ العقوبة كالقتل ؛ قُتل دون تَخيير ، وهو مُدرك واضح . ثُمّ ينبغي للإمام بعد ذلك أن يأخذ في العقوبة بما يقارب جرم المحارب وكثرة مُقامه في فساده . وذهب جماعة إلى أنّ ( أو ) في الآية للتّقسيم لا للتخيير ، وأنّ المذكورات مراتب للعقوبات بحسب ما اجترحه المحارب : فمن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب ، ومن لم يَقتل ولا أخذَ مالاً عُزّر ، ومن أخاف الطريق نُفي ، ومن أخذ المال فقط قطع ، وهو قول ابن عبّاس ، وقتادة ، والحسن ، والسديّ ، والشافعي . ويقرب خلافهم من التّقارب .

والأمر الثّاني : أنّ هذه العقوبات هي لأجل الحرابة وليست لأجل حقوق الأفراد من النّاس ، كما دلّ على ذلك قوله بعدُ { إلاّ الّذين تابوا من قبل أن تَقدروا عليهم } الآية وهو بيّن . ولذلك فلو أسقط المعتدى عليهم حقوقهم لم يسقط عن المحارب عقوبة الحرابة .

وقوله { ذلك لهم خِزي في الدّنيا } ، أي الجزاء خزي لهم في الدّنيا . والخزي : الذلّ والإهانة { ولا تُخزنا يوم القيامة } [ آل عمران : 194 ] . وقد دلّت الآية على أنّ لهؤلاء المحاربين عقابين : عقاباً في الدّنيا وعقاباً في الآخرة . فإن كان المقصود من المحاربين في الآية خصوص المحاربين من أهل الكفر كالعُرنيّين ، كما قيل به ، فاستحقاقهم العذابين ظاهر ، وإن كان المراد به ما يشمل المحارب من أهل الإسلام كانت الآية معارِضة لما ورد في الحديث الصّحيح في حديث عبادة بن الصامت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ البيعة على المؤمنين بما تضمّنته آية { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } [ الممتحنة : 12 ] الخ فقال : « فَمَن وفَى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهْوَ إلى الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له » فقوله : فهو كفارة له ، دليل على أنّ الحدّ يسقط عقاب الآخرة ، فيجوز أن يكون ما في الآية تغليظاً على المحاربين بأكثر من أهل بقيّة الذنوب ، ويجوز أن يكون تأويل ما في هذه الآية على التفصيل ، أي لهم خزي في الدنيا إن أُخِذوا به ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم إن لم يؤخذوا به في الدّنيا .


[221]:دهلك – بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وفتح اللام- جزيرة بين اليمن والحبشة. وباضع – بموجدة في أوله وبكسر الضاد المعجمة- جزيرة في بحر اليمن