في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

158

ومن ثم يرسم لهم صورة زرية تليق بهذا التقليد وهذا الجمود ، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها ، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه ماذا تعني ! بل هم أضل من هذه البهيمة ، فالبهمية ترى وتسمع وتصيح ، وهم صم بكم عمي :

( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء . صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) !

صم بكم عمي . ولو كانت لهم آذان والسنة وعيون . ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون . فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خلقت لها ، وكأنهم إذن لم توهب لهم آذان وألسنة وعيون .

وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره ، ويغلق منافذ المعرفة والهداية ، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يتلى عليه في كتابه وسوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به ، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة في قوله : وَمَثَلُ الّذين كَفَروا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِق بِمَا لا يَسْمَع إلاّ دُعاءً ونِدَاءً قال : مثل البعير أو مثل الحمار تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول .

حدثني محمد بن عبد الله بن زريع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ قال : هو كمثل الشاة ونحو ذلك .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَل الّذِي يَنْعِقُ بمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَندَاءً كمثل البعير والحمار والشاة إن قلت لبعضها كل لا يعلم ما تقول غير أنه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وعظته لم يعقل ما تقول ، غير أنه يسمع صوتك .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : مثل الدابة تنادي فتسمع ولا تعقل ما يقال لها ، كذلك الكافر يسمع الصوت ولا يعقل .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد : كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمعَ قال : مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثَلِ الّذي ينعق مثل ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل ، كمثل البهيمة تسمع النعيق ولا تعقل .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاء يقول : مثل الكافر كمثل البعير والشاة يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عني به .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كمَثَلَ الّذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِدَاءً قال : هو مثل ضربه الله للكافر ، يقول : مثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها ، فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : هو مثل الكافر يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : سألت عطاء ، ثم قلت له : يقال لا تعقل ، يعني البهيمة ، إلا أنها تسمع دعاء الداعي حين ينعق بها ، فهم كذلك لا يعقلون وهم يسمعون . فقال : كذلك . قال : وقال مجاهد : «الذي ينعق » الراعي «بما لا يسمع » من البهائم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمثل الذي ينعق الراعي بما لا يسمع من البهائم .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كَمَثلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعى فتأتي أو ينادَى بها فتذهب ، وأما الذي ينعق فهو الراعي الغنم كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له ، إلا أن يدعى أو ينادى ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام يقول الله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ .

ومعنى قائلي هذا القول في تأويلهم ما تأوْلوا على ما حكيت عنهم : ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنمه ونعيقه بها . فأضيف المثل إلى الذين كفروا ، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام على ذلك ، كما يقال : إذا لقيت فلانا فعظمه تعظيم السلطان ، يراد به كما تعظم السلطان ، وكما قال الشاعر :

فَلَسْتُ مُسَلّما ما دُمْتُ حَيّا عَلى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير

يراد به : كما يسلم على الأمير . وقد يحتمل أن يكون المعنى على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء : ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت ، وذلك أنه لو قيل له : اعتلف أو رد الماء لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر ، مثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فيه ، مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه . فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج على الناعق ، كما قال نابغة بني ذبيان :

وَقَدْ خِفْتُ حتّى ما تَزِيدُ مَخافَتِي على وَعِلٍ في ذِي الَمطارَةِ عاقِلِ

والمعنى : حتى ما تزيد مخافة الوعل على مخافتي ، وكما قال الاَخر :

كانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كمَا كانَ الزّناءُ فَريضَةَ الّرجْمِ

والمعنى : كما كان الرجم فريضة الزنا ، فجعل الزنا فريضة الرجم لوضوح معنى الكلام عند سامعه . وكما قال الاَخر :

إنّ سِرَاجا لَكَريمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُهْ

والمعنى : يحلى بالعين فجعله تحلى به العين . ونظائر ذلك من كلام العرب أكثر من أن يحصى مما توجهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحبه لظهور معنى ذلك عند سامعه ، فتقول : اعرض الحوض على الناقة ، وإنما تعرض الناقة على الحوض ، وما أشبه ذلك من كلامها .

وقال آخرون : معنى ذلك : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وذلك الصدى الذي يسمع صوته ، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا .

فتأويل الكلام على قول قائل ذلك : ومثل الذين كفروا وآلهتهم في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء ، أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعاءً وَنِدَاءً قال : الرجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيبه فيها صوت يراجعه يقال له الصدى ، فمثل آلهة هؤلاء لهم كمثل الذي يجيبه بهذا الصوت لا ينفعه لا يسمع إلا دعاء ونداء . قال : والعرب تسمي ذلك الصّدى .

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجها آخر غير ذلك ، وهو أن يكون معناها : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمع صوته غنمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه في عناء من دعاء ونداء ، فكذلك الكافر في دعائه آلهته إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها ، ولا ينفعه شيء .

وأولى التأويل عندي بالآية التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومن وافقه عليه ، وهو أن معنى الآية : ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنمه ونعيقه ، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه على ما قد بينا قبل .

فأما وجه جواز حذف «وعظ » اكتفاء بالمثل منه فقد أتينا على البيان عنه في قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وفي غيره من نظائره من الاَيات بما فيه الكفاية عن إعادته . وإنما اخترنا هذا التأويل ، لأن هذه الآية نزلت في اليهود ، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بها ، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها . ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويل من تأول ذلك أنه بمعنى : مثل الذين كفروا في ندائهم الاَلهة ودعائهم إياها .

فإن قال قائل : وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود ؟ قيل : دليلنا على ذلك ما قبلها من الاَيات وما بعدها ، فإنهم هم المعنيون به ، فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم . هذا مع ما ذكرنا من الأخبار عمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت ، والرواية التي روينا عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم . وبما قلنا من أن هذه الآية معنيّ بها اليهود كان عطاء يقول .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء في هذه الآية : هم اليهود الذين أنزل الله فيهم : إنّ الّذينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتابِ ويَشْتَرونَ بِه ثَمَنا قَلِيلاً إلى قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار .

وأما قوله يَنْعِقُ فإنه يصوّت بالغنم النعيق والنعاق ، ومنه قول الأخطل :

فانْعِقْ بِضأنِكَ يا جَرِيرُ فإنّمَا مَنّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلاءِ ضَلالاَ

يعني : صوّتْ به .

القول في تأويل قوله تعالى : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون .

يعني تعالى ذكره بقوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ ، هؤلاء الكفار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، صمّ عن الحقّ فهم لا يسمعون ، بكم يعني خرس عن قيل الحق والصواب والإقرار بما أمرهم الله أن يقرّوا به وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس ، فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبينونه للناس ، عميٌ عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة قوله : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : صم عن الحق فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ، عمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه ، بكم عن الحق فلا ينطقون به .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : صُمٌ بُكم عُمْيٌ يقول عن الحق .

حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه .

وأما الرفع في قوله : صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فإنه أتاه من قبل الابتداء والاستئناف ، يدل على ذلك قوله : فَهُمْ لا يَعْقِلُون كما يقال في الكلام : هو أصمّ لا يسمع ، وهو أبكم لا يتكلم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق . والمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ، ولا يتأملون فيما يقرر معهم ، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه . وقيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها ، بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته . أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام ، بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم ، وهذا يغني الإضمار ولكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء ، لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب .

{ صم بكم عمي } رفع على الذم . { فهم لا يعقلون } أي بالفعل للإخلال بالنظر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 171 )

وقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } الآية ، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول ، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه .

قال القاضي أبو محمد : فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض ، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز( {[1544]} ) .

والنعيق زجر الغنم والصياح بها ، قال الأخطل : [ الكامل ]

انعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فإنَّما . . . منَّتْكَ نَفْسُكَ في الْخَلاَءِ ضَلاَلا( {[1545]} )

وقال قوم : إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان ، فهي تحمق راعيها ، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين( {[1546]} ) ، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله »( {[1547]} ) ، وقال الشاعر : [ البسيط ]

أَصْبَحْتُ هُزْءاً لراعي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بي . . . مَاذَا يرِيبُكَ منّيَ رَاعيَ الضَّانِ( {[1548]} )

فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحاً يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه( {[1549]} ) ، وقال ابن زيد : المعنى في الآية : ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئاً إلا دوياً غير مفيد ، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال ، ووجه الطبري في الآية معنى آخر ، وهو أن المراد : ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه ، فإنما شبه في هذين( {[1550]} ) التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به ، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]

أصم عمّا ساءه ، سميع( {[1551]} ) . . . ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم { لا يعقلون } إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره : علوم ضرورية تعطيها هذه الحواس ، أو لا بد في كسبها من الحواس ، وتأمل( {[1552]} ) .


[1544]:- يعني أنه حذف الداعي من الأول لدلالة المدعوِّ عليه، وحذف المنعوق به من الثاني لدلالة الناعق عليه.
[1545]:- يريد: صح بغنمك يا جرير، واكتف بهذا عن المفاخر فلست لها أهلا، وإنما أنت من رعاة الغنم.
[1546]:- هذا التفسير خاص بالضأن، والأول عام في الضأن وغيره.
[1547]:- دريد هو: ابن الصِّمة، قال لمالك بن عوف – لما جاء إلى قتال المسلمين، وقد أمر هوزان أن يحملوا معهم أموالهم ونساءهم، أمِنْتَ أن تكون عليك، راعي ضأن والله، لا صحبتُك. وقصة حرب هوزان التي قصدت بها النبي صلى الله عليه وسلم معروفة، وقد سألت (دريد بن الصمة) الرياسة عليها، وكان قد بلغ العشرين بعد المائة – وكلام دريد فيه تجهيل لمالك، وبيان أنه لا يصلح للقيادة. وإنما هو راعي ضأن.
[1548]:- الشاعر هو: أمية بن الأسكر الليثي، أدرك الجاهلية والإسلام – وفي رواية: أصبحت قرداً لراعـي الضأن يسخر بـي ...................................
[1549]:- ومعنى ذلك – أنه وقع تشبيه الداعي بالناعق والكافر بالبهائم، وذلك خلاف ما يأتي عن ابن زيد والطبري.
[1550]:- أي تأويل ابن زيد وتأويل الطبري.
[1551]:- (أصَمُّ عَمّضا ساءَه سميع) مثل من الأمثلة العربية، أي أصمّ عن القبيح الذي يغمه، سميع للأمر الذي يسره. وفي معناه: حلمي أصم وأُذني غير صمّاء. أي أُعرض عن الخنا والفحش بحلمي وإن سمعته أُذني – وهو غير منسوب في اللسان – مادة "صمم".
[1552]:- المراد هنا العقل المكسوب دون المطبوع لأنه حاصل لهم، ولما كان الطريق لاكتساب العقل هو الاستعانة بهذه الحواس كان إعراضهم عنها فقْداً للعقل المكتسب، ومِن ثَمَّ قيل: مَنْ فقد حسًّا فقدْ فَقَدَ عقلا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

لما ذكر تلقيَهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا } [ البقرة : 170 ] ، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] الآية ، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من { الناس } في قوله : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } وعين المراد من { الذين ظلموا } في قوله : { ولو يرى الذين ظلموا } [ البقرة : 165 ] ، وعين الناس في قوله : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله : { وإذا قيل لهم } [ البقرة : 170 ] ، عُقّب ذلك كله بتمثيلِ فظيع حالهم إبلاغاً في البيان واستحضاراً لهم بالمثال ، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] . وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك .

والمثل هنا لَمَّا أضيف إلى { الذين كفروا } كان ظاهراً في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه ، فكلٌّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء : داعٍ ومدعو ودعوة ، وفَهْم وإعراض وتصميم ، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبهاً بجزء من أجزاء المشبه به ، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزتْه الآية إيجازاً بديعاً ، والمقصود ابتداءً هو تشبيه حال الكفار لا محالة ، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته ، وللكفار هنا حالتان : إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام ، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام ، وقد تضمنت الحالتين الآيةُ السابقة وهي قوله : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا } [ البقرة : 170 ] وأعظمه عبادة الأصنام ، فجاء هذا المَثَل بياناً لما طُوي في الآية السابقة .

فإن قلت : مقتضى الظاهر أن يقال : ومثل الذين كفروا كمثل غَنَم الذي ينعق ؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يُشبههُ داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك ؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق ؟ قلت : كِلاَ الأمرين منتف ؛ فإن قوله : { ومثل الذين } ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالاً وأيَّها ذكرتَ في جانب المركب المشبَّه والمركب المشبه به أجزأك ، وإنما كان الغالب أن يبدءَوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } وقد لا يلتزمون ذلك ، فقد قال الله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر } [ آل عمران : 117 ] الآية . والذي يقابل { ما ينفقون } في جانب المشبه به هو قوله : { حرث قوم } [ آل عمران : 117 ] وقال : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] وإنما الذي يقابل { الذين ينفقون } في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلاً وقال تعالى : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] الآية ، والذي يقابل الصفوانَ في جانب المشبه هو المال المنفَق لا الذي ينفق ، وفي الحديث الصحيح « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء » الخ ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا ، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلاً ، وهو استعمال كثير جداً ، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى ، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم ، أو تشبيه حال المشركين في إقبَالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم ، وأيّاً ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق ، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله : { إلا دعاء ونداء } من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به ، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك ، ولأَنْ يكون احتراساً في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رُعاتها فهي لا تسمع إلاّ دُعاء ونداء ، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذٍ مثل قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] ثم قال : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } [ البقرة : 74 ] .

وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين ، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى ؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حَمَّلْتُه من الهيئة كلها ، وهيئةُ المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على دينهم كما هو مدلول قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع } [ البقرة : 170 ] الآية ، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يَسمع ، فالنبي يدعوهم كناعقٍ بغنم لا تفقه دليلاً ، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئاً .

ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع .

والنعق نداء الغنم وفعله كضربَ ومنَع ولم يُقرأ إلاّ بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منَع أقيس ، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريراً بأن لا طائل في هجائه الأخطلَ :

فانْعِقْ بضأْنك يا جرير فإنما *** منَّتْك نفسُك في الظلام ضلالا

والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد ، فهو تأكيد ولا يصح ، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، وقيل الدعاء ما يُسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح .

والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم ، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات ، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها ، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف ؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام ، أو المراد به هنا نداء الرِّعاء بعضهم بعضاً للتعاون على ذود الغنم ، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } [ الأعراف : 43 ] في سورة الأعراف .

وقوله : { صم بكم عمى } أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل ، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومةِ مِنْ يَنعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهداً على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط : هو أعمى ، إلاّ أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكماً بالمشركين فقيل : صم بكم عمي كقول إبراهيم : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] .

وقوله : { فهم لا يعقلون } تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان ، فإن كان ذلك راجعاً للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادىء الرأي ، أي إن تأملتم وجدتموهم لا يعقلون ؛ لأنهم كالأنعام والصمِّ والبكممِ الخ ، وإن كان راجعاً للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها . ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنۡعِقُ بِمَا لَا يَسۡمَعُ إِلَّا دُعَآءٗ وَنِدَآءٗۚ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (171)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ضرب لهم مثلا، فقال سبحانه: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق}، يعني الشاة والحمار.

{بما لا يسمع إلا دعاء ونداء}: مثل الكافر كمثل البهيمة، إن أمرت أن تأكل أو تشرب، سمعت صوتا ولا تعقل ما يقال لها، فكذلك الكافر الذين يسمع الهدى والموعظة إذا دعي إليها، فلا يعقل ولا يفهم بمنزلة البهيمة.

{صم}: فلا يسمعون الهدى.

{بكم}: فلا يتكلمون بالهدى.

{عمي}: فلا يبصرون الهدى.

{فهم لا يعقلون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛

فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر في قلة فهمه عن الله ما يتلى عليه في كتابه وسوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به، مثل البهيمة التي تسمع الصوت إذا نعق بها ولا تعقل ما يقال لها... وقال مجاهد: «الذي ينعق» الراعي، «بما لا يسمع» من البهائم... فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام. يقول الله:"صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ".

ومعنى قائلي هذا القول في تأويلهم ما تأولوا على ما حكيت عنهم: ومثل وعظ الذين كفروا وواعظهم كمثل نعق الناعق بغنمه ونعيقه بها. فأضيف المثل إلى الذين كفروا، وترك ذكر الوعظ والواعظ لدلالة الكلام على ذلك...وقد يحتمل أن يكون المعنى على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله كمثل المنعوق به من البهائم الذي لا يفقه من الأمر والنهي غير الصوت، وذلك أنه لو قيل له: اعتلف أو رد الماء لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله فكذلك الكافر، مثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه بسوء تدبره إياه وقلة نظره وفكره فيه، مثل هذا المنعوق به فيما أمر به ونهي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به والكلام خارج على الناعق.

وقال آخرون: معنى ذلك: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به عنه الناعق شيئا.

فتأويل الكلام على قول قائل ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعق إلا دعاء ونداء، أي لا يسمع منه الناعق إلا دعاءه.

وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجها آخر غير ذلك، وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنم له من حيث لا تسمع صوته غنمه فلا تنتفع من نعقه بشيء غير أنه في عناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر في دعائه آلهته إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء.

وأولى التأويل عندي بالآية التأويل الأول، وهو أن معنى الآية: ومثل وعظ الكافر وواعظه كمثل الناعق بغنمه ونعيقه، فإنه يسمع نعقه ولا يعقل كلامه على ما قد بينا قبل. وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يعبدونها ولا أهل أصنام يعظمونها ويرجون نفعها أو دفع ضرها. ولا وجه إذ كان ذلك كذلك لتأويل من تأول ذلك أنه بمعنى: مثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودعائهم إياها.

فإن قال قائل: وما دليلك على أن المقصود بهذه الآية اليهود؟ قيل: دليلنا على ذلك ما قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم المعنيون به، فكان ما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أحق وأولى من أن يكون خبرا عن غيرهم حتى تأتي الأدلة واضحة بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا مع ما ذكرنا من الأخبار عمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت.

وأما قوله "يَنْعِقُ": فإنه يصوّت بالغنم.

"صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون": هؤلاء الكفار الذين مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صمّ عن الحقّ فهم لا يسمعون، بكم يعني خرس عن قيل الحق والصواب والإقرار بما أمرهم الله أن يقرّوا به وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، فلا ينطقون به ولا يقولونه ولا يبينونه للناس، عميٌ عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) سماهم بذلك، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، إذ الحاجة من هذه الأشياء الانتفاع بها، ولذلك سماهم سفهاء لما لم ينتفعوا بعلمهم وعقلهم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عدموا سمع الفهم والقبول، فلم ينفعهم سمع الظاهر، فنزلوا منزلة البهائم في الخلوِّ عن التحصيل، ومَنْ رضي أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة...

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

- لكون الشرع عقلا من خارج، سلب الله تعالى اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن، نحو قوله تعالى: {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}. [معارج القدس في مدارج معرفة النفس: 58]...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لا بدّ من مضاف محذوف تقديره: ومثل داعي الذين كفروا {كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ} أو: ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان -في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت، من غير إلقاء أذهان ولا استبصار- كمثل الناعق بالبهائم، التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها، ولا تفقه شيئاً آخر ولا تعي، كما يفهم العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلخ، الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف. وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم ولا يفقهون أهم على حق أم باطل؟

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالو: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد...

فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم، فقال: {صم بكم عمي} لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها...

أما قوله: {فهم لا يعقلون} فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلا لهم قال: العقل عقلان مطبوع ومسموع. ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} أي: صُمٌّ عن سماع الحق، بُكْمٌ لا يتفوهون به، عُمْيٌ عن رؤية طريقه ومسلكه {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي: لا يعقلون شيئًا ولا يفهمونه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

وعادتهم يفرقون بين الدعاء والنداء، بأن الدعاء يكون بلفظ الطلب وسواء كان معه نداء أو لم يكن، والدعاء أخف من النّداء لأن البهائم تناديها فلا تجيب فإذا دعوتها وزجرتها أتت. فالنداء للخواص والدعاء للعوام فمن لم يستجب للنداء قد يستجيب للدعاء، ومن لم ينفع فيه الدعاء فهو في غاية الجهل والغباوة.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} شيئاً، لأن طريقَ التعقل هو التدبّر في مبادي الأمورِ المعقولة والتأمل في ترتيبها، وذلك إنما يحصُلُ باستماعِ آياتِ الله ومشاهدةِ حُججِه الواضحةِ والمفاوضة مع من يؤخَذ منه العُلوم، فإذا كانوا صماً بكماً عمياً فقد انسدّ عليهم أبوابُ التعقل وطرُقُ الفهم بالكلية...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وأن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به... لأنه ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وتتزكى نفسه بالعلم بالله والعرفان في دينه، فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته في دينه ودنياه، ويكون فوق هذا على بصيرة وعقل في اعتقاده، فلا يأخذه بالتسليم لأجل آبائه وأجداده، ولذلك وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل بأنهم {صم} لا يسمعون الحق سماع تدبير وفهم، {بكم} لا ينطقون به عن اعتقاد وعلم، {عمي} "لا ينظرون في آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق، {فهم لا يعقلون} مبدأ ما هم فيه ولا غايته كما يطلب من الإنسان، وإنما ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ولذلك اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون، فالعاقل لا يقلد عاقلا مثله، فأجدر به أن لا يقلد جاهلا ضالا هو دونه...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل، وردهم لذلك بالتقليد، علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق، ولا مستجيبين له، بل كان معلوما لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم، أخبر تعالى، أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول راعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت، الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقها ينفعهم، فلهذا كانوا صما، لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، عميا، لا ينظرون نظر اعتبار، بكما، فلا ينطقون بما فيه خير لهم.

والسبب الموجب لذلك كله، أنه ليس لهم عقل صحيح، بل هم أسفه السفهاء، وأجهل الجهلاء.

فهل يستريب العاقل، أن من دعي إلى الرشاد، وذيد عن الفساد، ونهي عن اقتحام العذاب، وأمر بما فيه صلاحه وفلاحه، وفوزه، ونعيمه فعصى الناصح، وتولى عن أمر ربه، واقتحم النار على بصيرة، واتبع الباطل، ونبذ الحق -أن هذا ليس له مسكة من عقل، وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء، فإنه من أسفه السفهاء.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما ذكر تلقيهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا} [البقرة: 170]، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} [البقرة: 165] الآية، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من {الناس} في قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} وعين المراد من {الذين ظلموا} في قوله: {ولو يرى الذين ظلموا} [البقرة: 165]، وعين الناس في قوله: {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة: 168]، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله: {وإذا قيل لهم} [البقرة: 170]، عُقّب ذلك كله بتمثيلِ فظيع حالهم إبلاغاً في البيان واستحضاراً لهم بالمثال، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 17]. وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك.

والمثل هنا لَمَّا أضيف إلى {الذين كفروا} كان ظاهراً في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه، فكلٌّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء: داعٍ ومدعو ودعوة، وفَهْم وإعراض وتصميم، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبهاً بجزء من أجزاء المشبه به، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزتْه الآية إيجازاً بديعاً، والمقصود ابتداءً هو تشبيه حال الكفار لا محالة، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته، وللكفار هنا حالتان: إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام، وقد تضمنت الحالتين الآيةُ السابقة وهي قوله: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا} [البقرة: 170] وأعظمه عبادة الأصنام، فجاء هذا المَثَل بياناً لما طُوي في الآية السابقة.

فإن قلت: مقتضى الظاهر أن يقال: ومثل الذين كفروا كمثل غَنَم الذي ينعق؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يُشبههُ داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق؟ قلت: كِلاَ الأمرين منتف؛ فإن قوله: {ومثل الذين}، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد} [البقرة: 17]، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالاً وأيَّها ذكرتَ في جانب المركب المشبَّه والمركب المشبه به أجزأك، وإنما كان الغالب أن يبدؤوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} وقد لا يلتزمون ذلك، فقد قال الله تعالى: {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر} [آل عمران: 117] الآية. والذي يقابل {ما ينفقون} في جانب المشبه به هو قوله: {حرث قوم} [آل عمران: 117] وقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} [البقرة: 261] وإنما الذي يقابل {الذين ينفقون} في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلاً وقال تعالى: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب} [البقرة: 264] الآية، والذي يقابل الصفوانَ في جانب المشبه هو المال المنفَق لا الذي ينفق، وفي الحديث الصحيح « مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء» الخ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلاً، وهو استعمال كثير جداً، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم، أو تشبيه حال المشركين في إقبَالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم، وأيّاً ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله: {إلا دعاء ونداء} من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك، ولأَنْ يكون احتراساً في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رُعاتها فهي لا تسمع إلاّ دُعاء ونداء، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذٍ مثل قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة: 74] ثم قال: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74].

وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حَمَّلْتُه من الهيئة كلها، وهيئةُ المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على دينهم كما هو مدلول قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع} [البقرة: 170] الآية، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يَسمع، فالنبي يدعوهم كناعقٍ بغنم لا تفقه دليلاً، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئاً.

ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.

والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد، فهو تأكيد ولا يصح، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد، وقيل الدعاء ما يُسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.

والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام، أو المراد به هنا نداء الرِّعاء بعضهم بعضاً للتعاون على ذود الغنم، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة} [الأعراف: 43] في سورة الأعراف.

وقوله: {صم بكم عمى} أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومةِ مِنْ يَنعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهداً على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط: هو أعمى، إلاّ أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكماً بالمشركين فقيل: صم بكم عمي كقول إبراهيم: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} [مريم: 42].

وقوله: {فهم لا يعقلون} تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان، فإن كان ذلك راجعاً للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي، أي إن تأملتم وجدتموهم لا يعقلون؛ لأنهم كالأنعام والصمِّ والبكم...، وإن كان راجعاً للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها. ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

الذي ينعق هو الذي يصوّت ويصرح للبهائم، وهو الراعي، إذن، فكلمة ينعق أعطتنا صورة راع يرعى بهائم. وكان هذا الصياح من الراعي ليلفت الماشية المرعية لتسير خلفه، وهو لا يقول لها ما يريده أن تفعله، وإنما ينبهها بالصوت إلى ما يريد، ويسير أمامها لتسير خلفه إلى المرعى أو إلى نبع الماء، فالنداء لفتة ودعاء فقط، لكن ما يراد من الدعاء يصير أمرا حركيا تراه الماشية. فكأن الماشية المرعية لا تفهم من الراعي إلا النداء والدعاء، إنما دعاء ونداء لماذا؟ فهي لا تعرف الهدف منه، إلا بأن يسلك الراعي أمامها بما يرشدها. وهكذا نفهم أن هناك (راعيا)، و (ماشية)، و (صوتا من الراعي) وهو مجرد دعاء ونداء.

مقابل هؤلاء الثلاثة في قضيتنا هو الرسول حين يدعو فيكون هو (الراعي) ويدعو من؟، يدعو (الرعية) الذين هم الناس. وبماذا يدعو الرعية؟. أيناديها فقط لتأتيه، أم يناديها لتأتيه ويأمرها بأشياء؟. إنه يأمرها باتباع منهج السماء.

وهذا هو الفارق بين الراعي في الماشية والراعي في الآدميين.

فعندما يأتي الرسول ويقول: (يا قوم إني لكم رسول، وإني لكم نذير)، فهذا هو الدعاء، ومضمون ذلك الدعاء هو (اعبدوا الله). (انظروا في السماوات والأرض)، (افعلوا كذا من أوامر وانتهوا عن تلك النواهي)، هذا ما يريده الرسول.

إذن فالرسول يشترك مع الراعي في الدعاء والنداء، وهم اشتركوا مع المرعى في أنهم لم يفهموا إلا الدعاء والنداء فقط، وفي الاستجابة هم (صم بكم عمي)، فالمدعو به لم يسمعوه، وكأنهم اشتركوا مع الحيوان في أنهم لا يستمعون إلا للدعاء والنداء، إنما المدعو به ومضمون النداء هم لا يعقلونه ولا يفهمونه. وبكم لا ينطقون بمطلوب الدعوة وهو (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله)، وليس عندهم عقل يدير حركة العيون لينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليظهر لهم وجه الحق في هذه المسألة.

إذن فمثل الذين كفروا بالرسول كمثل الماشية مع الراعي، فهم لا يسمعون إلا مجرد الدعاء، كما أن الماشية تسمع الراعي ولا تعقل، مع الفارق؛ لأن الدواب ليس مطلوبا منها أن ترد على من يناديها. ولا تسمع غير ذلك من المدعو به لذا كان الكافرون شر الدواب.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمّى سبل المعرفة. أهم هذه السبل العين والأُذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال.

لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء التفريع وتقول: (فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ).

من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأُذن واللسان، العين والأُذن للفهم المباشر، واللسان لإِقامة الارتباط بالآخرين وكسب علومهم.

والفلسفة أثبتت أيضاً حقيقة انطلاق العلوم غير الحسية أيضاً من العلوم الحسيّة.