وينهي هذا كله بدعوة جامعة ، يكلف رسول الله [ ص ] أن يوجهها إلى أهل الكتاب : ( قل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيرا . وضلوا عن سواء السبيل ) .
فمن الغلو في تعظيم عيسى - عليه السلام - جاءت كل الانحرافات . ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم ، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح ، فبلغة بأمانة الرسول ، وهو يقول لهم : ( يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار ) . .
وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب ؛ ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل . .
نقطة اللقاء في اعتبار الإسلام هي العقيدة
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة ، يحسن الإلمام بها في إجمال : الحقيقة الأولى : هي حقيقة هذا الجهد الكبير ، الذي يبذله المنهج الإسلامي ، لتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة ؛ وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب ، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية ؛ وإفراد الله - سبحانه - بخصائصها ، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص . .
وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم ، يدل على أهمية هذا التصحيح . وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها ، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني ، ولكل ارتباط إنساني كذلك .
والحقيقة الثانية : هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ؛ أو قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : فلم يعد لمسلم - بعد قول الله سبحانه - قول . ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله . والله سبحانه يقول : إنهم كفروا بسبب هذه المقولات .
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لايكره أحدا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام ، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينا يرضاه الله . بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينا يرضاه الله .
والحقيقية الثالثة : المترتبة على هاتين الحقيقتين ، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام ، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد [ ص ] هو وحده " الدين " عند الله . .
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل " الأديان " أمام الإلحاد كلاما لا مفهوم له في اعتبار الإسلام ! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل ، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها . فكل شيء في الحياة يقوم أولا على أساس العقيدة . . في اعتبار الإسلام . .
{ قُلْ يََأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوَاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلّواْ كَثِيراً وَضَلّواْ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ } . .
وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح : يا أهْلَ الكِتابِ يعني بالكتاب : الإنجيل ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يقول : لا تفْرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل ، فتقولوا فيه : هو الله ، أو هو ابنه ولكن قولوا : هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . وَلا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثِيرا يقول : ولا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدي في القول فيه ، فتقولون فيه كما قالوا : هو لغير رِشْدة ، وتَبْهتوا أمه كما بيهتونها بالفرية ، وهي صدّيقة . وأضَلّوا كَثِيرا يقول تعالى ذكره : وأضلّ هؤلاء اليهود كثيرا من الناس ، فحادوا بهم عن طريق الحقّ وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح . وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ يقول : وضلّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق ، وركبوا غير محجة الحقّ وإنما يعني تعالى ذكره بذلك كفرهم بالله وتكذيبهم رسله عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، وذهابهم عن الإيمان وبُعْدهم منه . وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ قال : يهود .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضلّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثِيرا فهم أولئك الذين ضلوا وأضلوا أتباعهم . وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ عن عدل السبيل .
{ قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق } أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلى أن تدعوا له الألوهية ، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة . وقيل الخطاب للنصارى خاصة . { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } يعني أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في شريعتهم . { وأضلوا كثيرا } ممن شايعهم على بدعهم وضلالهم . { وضلوا عن سواء السبيل } عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم لما كذبوه وبغوا عليه ، وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.