( وألف بين قلوبهم ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ، إنه عزيز حكيم )
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله ، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة ، وهذه الطباع الشموس ، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض ، المحب بعضها لبعض ، المتآلف بعضها مع بعض ، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة - : ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب ، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب ، التي تلين جاسيها ، وترقق حواشيها ، وتندي جفافها ، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد ، ونطق الجارحة ، وخفقة القلب ، ترانيم من التعارف والتعاطف ، والولاء والتناصر ، والسماحة والهوادة ، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ؛ وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله .
يقول رسول الله [ ص ] : " إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى " قالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم . قال : " هم قوم تحابوا بروح الله بينهم ، على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " . . [ أخرجه أبو داود ] .
ويقول [ ص ] : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار " . . [ رواه الطبراني ] .
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب ؛ وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [ ص ] ؛ كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة ، ولا مجرد أعمال مثالية فردية ؛ إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت ، بإذن الله ، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
يريد جلّ ثناؤه بقوله : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج بعد التفرّق والتشتت على دينه الحقّ ، فصيرهم به جميعا بعد أن كانوا أشتاتا ، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء .
وقوله : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو أنفقت يا محمد ما في الأرض جميعا من ذهب وورق وعرض ، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك ، ولكن الله جمعها على الهدى ، فائتلفت واجتمعت تقوية من الله لك وتأييدا منه ومعونة على عدوّك . يقول جلّ ثناؤه : والذي فعل ذلك وسببه لك حتى صاروا لك أعوانا وأنصارا ويدا واحدة على من بغاك سوءا هو الذي إن رام عدوّ منك مراما يكفيك كيده وينصرك عليه ، فثق به وامض لأمره وتوكل عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ قال : هؤلاء الأنصار ألف بين قلوبهم من بعد حرب فيما كان بينهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن بشير بن ثابت رجل من الأنصار ، أنه قال في هذه الاَية : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يعني الأنصار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ على الهدى الذي بعثك به إليهم . لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ ألّفَ بَيْنَهُمْ بدينه الذي جمعهم عليه ، يعني الأوس والخزرج .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن إبراهيم الجزري ، عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما . قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عُمير ، قال : ثني الوليد ، عن أبي عمرو ، قال : ثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد ، ولقيته وأخذ بيدي ، فقال : إذا تراءى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير قال : لا تقل ذلك ، فإن الله يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا فضيل بن غزوان ، قال : أتيت أبا إسحاق ، فسلمت عليه فقلت : أتعرفني ؟ فقال فضيل : نعم لولا الحياء منك لقبلتك .
حدثني أبو الأحوص ، عن عبد الله ، قال : نزلت هذه الاَية في المتحابين في الله : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس أو قال عن الناس الألفة .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، عن الأوزاعي ، قال : ثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد ، ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم ، عن الوليد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وابن نمير وحفص بن غياث ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : سمعت عبد الله يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ . . . الاَية ، قال : هم المتحابون في الله .
وقوله : إنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول : إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما وجعلهم لك أنصارا عزيز لا يقهره شيء ولا يردّ قضاءه رادّ ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه . يقول : فعليه فتوكل ، وبه فثق ، حَكِيمٌ في تدبير خلقه .
{ وألّف بين قلوبهم } مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء ، والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة ، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم ، وبيانه : { لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم } أي تناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح .
{ ولكن الله ألّف بينهم } بقدرته البالغة ، فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء . { إنه عزيز } تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده . { حكيم } يعلم أنه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده ، وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم الله ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.