سورة الطور مكية وآيتها تسع وأربعون
هذه السورة تمثل حملة عميقة التأثير فى القلب البشري . ومطاردة عنيفة للهواجس والشكوك والشبهات والأباطيل التي تساوره وتتدسس إليه وتختبئ هنا وهناك في حناياه . ودحض لكل حجة وكل عذر قد يتخذه للحيدة عن الحق والزيغ عن الإيمان . . حملة لا يصمد لها قلب يتلقاها ، وهي تلاحقه حتى تلجئه إلى الإذعان والاستسلام !
وهي حملة يشترك فيها اللفظ والعبارة ، والمعنى والمدلول ، والصور والظلال ، والإيقاعات الموسيقية لمقاطع السورة وفواصلها على السواء . ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف ، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ، وصورها وظلالها كما لو كانت سياطا لاذعة للحس لا تمهله لحظة واحدة من البدء إلى الختام !
وتبدأ السورة بقسم من الله سبحانه بمقدسات في الأرض والسماء . بعضها مكشوف معلوم ! وبعضها مغيب مجهول : ( والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع ) . .
القسم على أمر عظيم رهيب ، يرج القلب رجا ، ويرعب الحس رعبا . في تعبير يناسب لفظه مدلوله الرهيب ؛ وفي مشهد كذلك ترجف له القلوب : ( إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع ، يوم تمور السماء مورا ، وتسير الجبال سيرا ) . .
وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب ، من ويل وهول ، وتقريع وتفزيع : ( فويل يومئذ للمكذبين ، الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون ) . .
هذا شوط من حملة المطاردة . يليه شوط آخر من لون آخر . شوط في إطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب - إطماعها في الأمن والنعيم . بعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم . وما هيئ لهم من نعيم رخي رغيد ، يطول عرضه ، وتكثر تفصيلاته ، وتتعدد ألوانه . مما يستجيش الحس إلى روح النعيم وبرده ؛ بعد كرب العذاب وهوله : ( إن المتقين في جنات ونعيم . فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين . والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، كل امرئ بما كسب رهين . وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون . يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم . ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قالوا : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ) . .
والآن وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الأول ؛ وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني . . الآن يجيء الشوط الثالث يطارد الهواجس والوساوس ؛ ويلاحق الشبهات والأضاليل ؛ ويدحض الحجج والمعاذير . ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة . تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل ، مستقيم لا يحتمل اللف والدوران . يلوي الأعناق ليا ويلجئها إلى الإذعان والتسليم . . ويبدأ هذا الشوط بتوجيه الخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليمضي في تذكيره لهم ، على الرغم من سوء أدبهم معه ؛ وليقرعهم بهذا المنطق النافذ القوي المستقيم : فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ? قل : تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المصيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . .
وعقب هذه الأسئلة المتلاحقة . بل هذه القذائف الصاعقة . التي تنسف الباطل نسفا ، وتحرج المكابر والمعاند ، وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه . . عقب هذا يصور تعنتهم وعنادهم في صورة الذي يكابر في المحسوس : ( وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ) . والفرق بين قطعة السماء تسقط وبين السحاب واضح ، ولكنهم هم يتلمسون كل شبهة ليعدلوا عن الحق الواضح .
هنا يلقي عليهم بالقذيفة الأخيرة . قذيفة التهديد الرعيب ، بملاقاة ذلك المشهد المرهوب ، الذي عرض عليهم في مطلع السورة : ( فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون . يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ) . . كما يهددهم بعذاب أقرب من ذلك العذاب : ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
ثم تختم السورة بإيقاع رضي رخي . . إنه موجه إلى الرسول الكريم الذي يقولون عنه : ( شاعر نتربص به ريب المنون ) . . ويقولون : كاهن أو مجنون . موجه إليه من ربه يسليه ويعزيه في إعزاز وتكريم . في تعبير لا نظير له في القرآن كله ؛ ولم يوجه من قبل إلى نبي أو رسول : ( واصبر لحكم ربك ، فإنك بأعيننا ، وسبح بحمد ربك حين تقوم ، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ) . .
إنه الإيقاع الذي يمسح على العنت والمشقة اللذين يلقاهما الرسول الكريم ، من أولئك المتعنتين المعاندين ، الذين اقتضت مواجهتهم تلك الحملة العنيفة من المطاردة والهجوم . .
( والطور . وكتاب مسطور . في رق منشور . والبيت المعمور . والسقف المرفوع . والبحر المسجور . إن عذاب ربك لواقع . ما له من دافع . يوم تمور السماء مورا . وتسير الجبال سيرا . فويل يومئذ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون . يوم يدعون إلى نار جهنم دعا . هذه النار التي كنتم بها تكذبون . أفسحر هذا ? أم أنتم لا تبصرون ? اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا ، سواء عليكم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون ) . .
هذه الآيات القصيرة ، والفواصل المنغمة ، والإيقاعات الفاصلة ، تصاحب السورة من مطلعها . وهي تبدأ كلمة واحدة . ثم تصبح كلمتين . ثم تطول شيئا فشيئا حتى تبلغ في نهاية المقطع اثنتي عشرة كلمة . مع المحافظة الكاملة على قوة الإيقاع .
والطور : الجبل فيه شجر . والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن ، المذكور في قصة موسى - عليه السلام - والذي نزلت فوقه الألواح . فالجو جو مقدسات يقسم بها الله سبحانه على الأمر العظيم الذي سيجيء .
مكية كلها في قول الجميع ، وهي تسع وأربعون آية
روى الأئمة عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب . متفق عليه .
قوله تعالى : " والطور " الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات ، وهو أحد جبال الجنة . وروى إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة{[14270]} ) قيل : فما الأجبل ؟ قال : ( جبل أحد يحبنا ونحبه والطور جبل من جبال الجنة ولبنان جبل من جبال الجنة والجودي{[14271]} جبل من جبال الجنة ) وذكر الحديث ، وقد استوفيناه في كتاب " التذكرة " قال مجاهد : الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا . وقاله السدي . وقال مقاتل بن حيان : هما طوران يقال لأحدهما طور سينا والآخر طور زيتا ؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون . وقيل : هو جبل بمدين واسمه زبير . قال الجوهري : والزبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام .
قلت : ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام . وقيل : إن الطور كل جبل أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور ، قاله ابن عباس . وقد مضى في " البقرة{[14272]} " مستوفى .
سورة الطور{[1]}
مقصودها تحقيق وقوع العذاب الذي هو مضمون الوعيد المقسم على وقوعه في الذاريات الذي هو مضمون الإنذار المدلول على صدقه في ق ، فإن وقوعه أثبت وأمكن من الجبال التي أخبر الصادق بسيرها . وجعل دك بعضها آية على ذلك ، ومن الكتاب في أثبت أوضاعه{[2]} لإمكان غسله وحرقه ، ومن البيت الذي يمكن عامره وغيره إخرابه ، والسقف الذي يمكن رافعه وضعه ، والبحر الذي يمكن من سجره أن يرسله ، وقد بان أن اسمها أدل ما يكون على ذلك بملاحظة القسم وجوابه حتى بمفردات الألفاظ في خطابه ( بسم الله ) الملك الأعظم ذي الملك والملكوت ( الرحمن ) الذي عم بالرحموت من حققه الثبوت ( الرحيم ) الذي خص برحمته وتوفيقه أهل القنوت .
لما ختمت الذاريات بتحقيق الوعيد ، افتتحت هذه بإثبات العذاب الذي هو روح الوعيد ، فقال تعالى : { والطور * } وذلك أنهم لما كانوا يقولون عما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم : إنه سحر خيال لا حقيقة له ، أقسم بالجبل - الذي هو عندهم وعند غيرهم من ذوي العقول - أثبت الأرض وأشدها وأصلبها ، وعبر عنه بالطور الذي هو مشترك بين مطلق الجبل وبين المضاف{[61479]} إلى سينا الذي كان فيه نبوة موسى عليه السلام وإنزال كثير من كتابه وغير ذلك - آيات تعلمها بنو إسرائيل الذين يستنصحونهم ويسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرضون بقولهم فيه فمن آياته أنه كانت فيه الرحمة بمناجاة موسى عليه السلام وما كتب له فيه على ألواح الجوهر وما أنزل عليه من الناموس الذي جعله هدى ورحمة وموعظة وذكراً وتفصيلاً لكل شيء وكان فيه مع الرحمة العذاب بما أتاهم من الصاعقة{[61480]} التي أماتتهم ثم أحياهم الله وبما كانوا يشهدون من السحاب الذي تخلله فيكون كقتار الأتون ، وفيه بروق كأعظم{[61481]} ما يشاهد من النار ، وأبواق{[61482]} تزعق بصوت هائل ، ولما شوهد من اندكاك الجبل عند التجلي وصعق موسى عليه السلام إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف{[61483]} الظلمات ، وأيضاً فالطور كل جبل ينبت ، وإنبات الجبل عجيب ، فإن نباته لا يكون إلا بسبب ، وسبب النبات الماء ، والماء منبث في الأرض لتركبها عليه وهو مواز لما انكشف منه من ماء البحار ، وكلما علت الأرض بعدت عن الماء ، والجبال أبعدها منه ، فسبب إنباته خفي جداً لا يعلمه إلا الله ومن فهمه إياه{[61484]} .
هذه السورة مكية وعدد آياتها تسع وأربعون . وهي سورة عجيبة في إيقاعها وروعة أجراسها التي تلامس الحس والوجدان أيما ملامسة ، فضلا عن حرف الراء المكرور بصداه الشجي المستطاب ، وذلك في جملة في أواخر الآيات الباهرة العجاب .
وفي السورة تأكيد من الله بالغ على أن عذابه نازل بالظالمين لا محالة . ويضاف إلى ذلك ، هذا الإيحاء من التهديد المخوف ، والوعيد المرعب الذي ينذر الله به الخائضين السادرين في الغفلة واللهو من الناس . أولئك يتوعدهم الله بعذاب بئيس يصلونه يوم القيامة وهم يقهرون على دخول النار قسرا ودعّا . ويكشف عن مثل هذه الحقيقة المرعبة كلمات الله الموحية المؤثرة التي يفيض من أحرفها وشديد جرسها طيف التحذير المخوف والترويع الذي يأخذ بالقلوب . وهو قوله : { يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا } لا جرم أن هذه الآية وما يتلوها من الآيات في هذه السورة لهي تقرع نواقيس القلوب وتنشر في الخيال صورا من مشاهد اليوم الآخر لا تنمحي ولا تتبدد .
إن هذه السورة بأوزانها وأنغامها وأجراسها وحقائقها المريعة المذهلة لا يتملاّها ذو نظر وتدبر إلا أخذته غاشية من الدهش والفزع ، والشخوص . وقد ذكر في هذا الصدد أن جبير بن معطم - وهو واحد من فصحاء البيان ومصاقع الخطابة وقد كان مشركا- كان قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو في صلاته سورة الطور فأنصت له بتدبر واعتبار شديدين وقد تملكه الدهش والارتياع فما لبث أن أسلم وقال : كاد قلبي يطير . خفت على نفسي . خشيت أن يدركني العذاب{[1]} .
{ والطور 1 وكتاب مسطور 2 في رق منشور 3 والبيت المعمور 4 والسقف المرفوع 5 والبحر المسجور 6 إن عذاب ربك لواقع 7 ما له من دافع 8 يوم تمور السماء مورا 9 وتسير الجبال سيرا 10 فويل يومئذ للمكذبين 11 الذين هم في خوض يلعبون 12 يوم يدعّون إلى نار جهنم دعّا 13 هذه النار التي كنتم بها تكذبون 14 أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون 15 اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعلمون } .
ذلك قسم من الله شديد على أن الساعة آتية وأن العذاب واقع لا محالة ، وأن الكافرين والمكذبين بيوم الدين لا مفر لهم مما هم صائرون إليه ، وهي النار يدعّون إليها زجرا وقسرا . وذلك قوله سبحانه : { والطور 1 وكتاب مسطور } الواو الأولى في أول السورة للقسم ، والواو الثانية واو العطف . وجواب القسم { إن عذاب ربك لواقع } {[4352]} والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى فقد أقسم الله به على سبيل التشريف له والتعظيم لما وقع فيه من الآيات . وقيل : المراد به طور سينا .