في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ} (41)

40

ثم يبادر فيقرر الجواب الصادق ، المطابق لما في فطرتهم بالفعل ، ولو لم تنطق به ألسنتهم :

( بل إياه تدعون . . فيكشف ما تدعون إليه إن شاء . . وتنسون ما تشركون ) .

بل تدعونه وحده ؛ وتنسون شرككم كله ! . . إن الهول يعري فطرتكم - حينئذ - فتتجه بطلب النجاة إلى الله وحده . وتنسى أنها أشركت به أحدا . بل تنسى هذا الشرك ذاته . . إن معرفتها بربها هي الحقيقة المستقرة فيها ؛ فأما هذا الشرك فهو قشرة سطحية طارئة عليها ، بفعل عوامل أخرى . قشرة سطحية في الركام الذي ران عليها . فإذا هزها الهول تساقط هذا الركام ، وتطايرت هذه القشرة ، وتكشفت الحقيقة الأصيلة ، وتحركت الفطرة حركتها الفطرية نحو بارئها ، ترجوه أن يكشف عنها الهول الذي لا يد لها به ، ولا حيلة لها فيه . .

هذا شأن الفطرة في مواجهة الهول ؛ يواجه السياق القرآني به المشركين . . فأما شأن الله - سبحانه - فيقرره في ثنايا المواجهة . فهو يكشف ما يدعونه إليه - إن شاء - فمشيئته طليقة ، لا يرد عليها قيد . فإذا شاء استجاب لهم فكشف عنهم ما يدعون كله أو بعضه ؛ وإن شاء لم يستجب ، وفق تقديره وحكمته وعلمه .

هذا هو موقف الفطرة من الشرك الذي تزاوله أحيانا ، بسبب ما يطرأ عليها من الانحراف ، نتيجة عوامل شتى ، تغطي على نصاعة الحقيقة الكامنة فيها . . حقيقة اتجاهها إلى ربها ومعرفتها بوحدانيته . . فما هو موقفها من الإلحاد وإنكار وجود الله أصلا ؟

نحن نشك شكا عميقا - كما قلنا من قبل - في أن أولئك الذين يمارسون الإلحاد في صورته هذه صادقون فيما يزعمون أنهم يعتقدونه . نحن نشك في أن هناك خلقا أنشأته يد الله ، ثم يبلغ به الأمر حقيقة أن ينطمس فيه تماما طابع اليد التي أنشأته ؛ وفي صميم كينونته هذا الطابع ، مختلطا بتكوينه متمثلا في كل خلية وفي كل ذرة !

إنما هو التاريخ الطويل من العذاب البشع ، ومن الصراع الوحشي مع الكنيسة ، ومن الكبت والقمع ، ومن أنكار الكنيسة للدوافع الفطرية للناس مع استغراقها هي في اللذائذ المنحرفة . . إلى آخر هذا التاريخ النكد الذي عاشته أوربا قرونا طويلة . . هو الذي دفع الأوربيين في هذه الموجة من الإلحاد في النهاية . . فرارا في التية ، من الغول الكريه .

ذلك إلى استغلال اليهود لهذا الواقع التاريخي ؛ ودفع النصارى بعيدا عن دينهم ؛ ليسلس لهم قيادهم ، ويسهل عليهم إشاعة الانحلال والشقاء فيهم ، وليتيسر لهم استخدامهم - كالحمير - على حد تعبير " التلمود " و " بروتوكولات " حكماء صهيون " . . وما كان اليهود ليبلغوا من هذا كله شيئا إلا باستغلال ذلك التاريخ الأوربي النكد ، لدفع الناس إلى الإلحاد هربا من الكنيسة .

ومع كل هذا الجهد الناصب ، المتمثل في محاولة " الشيوعية " - وهي إحدى المنظمات اليهودية - لنشر الإلحاد ، خلال أكثر من نصف قرن ، بمعرفة كل أجهزة الدولة الساحقة ، فإن الشعب الروسي نفسه لم يزل في أعماق فطرته الحنين إلى عقيدة في الله . . ولقد اضطر " ستالين " الوحشي - كما يصوره خلفه خروشوف ! - أن يهادن الكنسية ، في أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأن يفرج عن كبير الأساقفة ، لأن ضغط الحرب كان يلوي عنقه للاعتراف للعقيدة في الله بأصالتها في فطرة الناس . . مهما يكن رأيه ورأي القليلين من الملحدين من ذوي السلطان حوله .

ولقد حاول اليهود - بمساعدة " الحمير " الذين يستخدمونهم من الصليبيين - أن ينشروا موجة من الإلحاد في نفوس الأمم التي تعلن الإسلام عقيدة لها ودينا . ومع أن الإسلام كان قد بهت وذبل في هذه النفوس . . فإن الموجة التي أطلقوها عن طريق " البطل " أتاتورك في تركيا . . انحسرت على الرغم من كل ما بذلوه لها - وللبطل - من التمجيد والمساعدة . وعلى كل ما ألفوه من الكتب عن البطل والتجربة الرائدة التي قام بها . . ومن ثم استداروا في التجارب الجديدة يستفيدون من تجربة أتاتورك ، ألا يرفعوا على التجارب الرائدة راية الإلحاد . إنما يرفعون عليها راية الإسلام . كي لا تصدم الفطرة ، كما صدمتها تجرية أتاتورك . ثم يجعلون تحت هذه الراية ما يريدون من المستنقعات والقاذورات والانحلال الخلقي ، ومن أجهزة التدمير للخامة البشرية بجملتها في الرقعة الإسلامية .

غير إن العبرة التي تبقى من وراء ذلك كله ، هي أن الفطرة تعرف ربها جيدا ، وتدين له بالوحدانية ، فإذا غشي عليها الركام فترة ، فإنها إذا هزها الهول تساقط عنها ذلك الركام كله وتعرت منه جملة ، وعادت إلى بارئها كما خلقها أول مرة . . مؤمنة طائعة خاشعة . . أما ذلك الكيد كله فحسبه صيحة حق تزلزل قوائمه ، وترد الفطرة إلى بارئها سبحانه . ولن يذهب الباطل ناجيا ، وفي الأرض من يطلق هذه الصيحة . ولن يخلوا وجه الأرض مهما جهدوا ممن يطلق هذه الصيحة .