في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَقَلَّتۡ سَحَابٗا ثِقَالٗا سُقۡنَٰهُ لِبَلَدٖ مَّيِّتٖ فَأَنزَلۡنَا بِهِ ٱلۡمَآءَ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ كَذَٰلِكَ نُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (57)

54

ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ؛ ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة ؛ لا تسمع نطقها ، ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة ؛ نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل ، والزرع النامي ، والحياة النابضة بعد الموت والخمود :

( وهو الذي يرسل الرياح ، بشراً بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء ، فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) . .

إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله ؛ الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .

وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .

ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة ، كأن العين تراه .

إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشىء نفسه ، ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه ! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة ، لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث ، يقع بمفرده وفق قدر خاص .

وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى ( بلد ميت ) . . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .

إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه ، إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية ، التي تتصور الكون كأنه آلة ، فرغ صانعها منها ، وأودعها القوانين التي تتحرك بها ، ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء !

إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية . ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشىء الحركة ويحقق السنة ، وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .

إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب ، يرى قدر الله المنفذ ، ويرى يد الله الفاعلة ، ويسبح لله ويذكره ويراقبه ، ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه !

هذا تصور يستحيي القلوب ، ويستجيش العقول ، ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة ؛ وبتسبيح البارىء الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار .

كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض ، وبين النشأة الآخرة ، التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره ؛ على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة :

( كذلك نخرج الموتى ، لعلكم تذكرون ) . .

إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة ، من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض ، فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض ، هي المشيئة التي ترد الحياة في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا ، لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى . .

( لعلكم تذكرون ) . .

فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ؛ ويغرقون في الضلالات والأوهام !