في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (95)

94

( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) . .

فإذا الرخاء مكان الشدة ، واليسر مكان العسر ، والنعمة مكان الشظف ، والعافية مكان الضر ، والذرية مكان العقر ، والكثرة مكان القلة ، والأمن مكان الخوف . وإذا هو متاع ورخاء ، وهينة ونعماء ، وكثرة وامتلاء . . وإنما هو في الحقيقة اختبار وابتلاء . .

والابتلاء بالشدة قد يصبر عليه الكثيرون ، ويحتمل مشقاته الكثيرون . فالشدة تستثير عناصر المقاومة . وقد تذكر صاحبها بالله - إن كان فيه خير - فيتجه إليه ويتضرع بين يديه ، ويجد في ظله طمأنينة ، وفي رحابه فسحة ، وفي فرجه أملاً ، وفي وعده بشرى . . فأما الابتلاء بالرخاء فالذين يصبرون عليه قليلون . فالرخاء ينسي ، والمتاع يلهي ، والثراء يطغي . فلا يصبر عليه إلا الأقلون من عباد الله .

( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ، وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ) . .

أي حتى كثروا وانتشروا ، واستسهلوا العيش ، واستيسروا الحياة : ولم يعودوا يجدون في أنفسهم تحرجاً من شيء يعملونه ، ولا تخوفاً من أمر يصنعونه . . والتعبير : ( عفوا )- إلى جانب دلالته على الكثرة - يوحي بحالة نفسية خاصة : حالة قلة المبالاة . حالة الاستخفاف والاستهتار . حالة استسهال كل أمر ، واتباع عفو الخاطر في الشعور والسلوك سواء . . وهي حالة مشاهدة في أهل الرخاء واليسار والنعمة ، حين يطول بهم العهد في اليسار والنعمة والرخاء - أفراداً وأمماً - كأن حساسية نفوسهم قد ترهلت فلم تعد تحفل شيئاً ، أو تحسب حساباً لشيء . فهم ينفقون في يسر ويلتذون في يسر ، ويلهون في يسر ، ويبطشون كذلك في استهتار ! ويقترفون كل كبيرة تقشعر لها الأبدان ويرتعش لها الوجدان ، في يسر واطمئنان ! وهم لا يتقون غضب الله ، ولا لوم الناس ، فكل شيء يصدر منهم عفواً بلا تحرج ولا مبالاة . وهم لا يفطنون لسنة الله في الكون ، ولا يتدبرون اختباراته وابتلاءاته للناس . ومن ثم يحسبونها تمضي هكذا جزافاً ، بلا سبب معلوم ، وبلا قصد مرسوم :

( وقالوا : قد مس آباءنا الضراء والسراء ) . .

وقد أخذنا دورنا في الضراء وجاء دورنا في السراء ! وها هي ذي ماضية بلا عاقبة ، فهي تمضي هكذا خبط عشواء !

عندئذ . . وفي ساعة الغفلة السادرة ، وثمرة للنسيان واللهو والطغيان ، تجيء العاقبة وفق السنة الجارية : ( فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .

جزاء بما نسوا واغتروا وبعدوا عن الله ؛ وأطلقوا لشهواتهم العنان ، فما عادوا يتحرجون من فعل ، وما عادت التقوى تخطر لهم ببال !