في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (26)

ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ؛ فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها ، وبما كان من الأذى الذي ينالها ، والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة ، التي أعزها بها الله ، وأعطاها وحماها :

( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .

اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ؛ واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف ، قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين ، وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !

ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف :

( تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .

وهو مشهد التربص الوجِل ، والترقب الفزع ، حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة ، والحركات المفزَّعة ، والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ؛ والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !

ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم ، في ظل الله الذي آواهم إلى حماه :

( فآواكم ، وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات ) . .

وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا :

( لعلكم تشكرون ) . .

فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة ، ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه ، وهذا المشهد وذلك معروضان عليه ، ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?

على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .

والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ؛ قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين ، ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى :

( إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) . .

فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ؛ وأن تترقب في يقين وثقة ، موعود الله للعصبة المسلمة ، موعوده الذي حققه للعصبة الأولى ، ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه ، وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى :

( فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) .

وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !