تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

{ 32-34 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ }

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : اضرب للناس مثل هذين الرجلين ، الشاكر لنعمة الله ، والكافر لها ، وما صدر من كل منهما ، من الأقوال والأفعال ، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل ، والثواب ، ليعتبروا بحالهما ، ويتعظوا بما حصل عليهما ، وليس معرفة أعيان الرجلين ، وفي أي : زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة ، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط ، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف . فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة ، جعل الله له جنتين ، أي : بستانين حسنين ، من أعناب .

{ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } أي : في هاتين الجنتين من كل الثمرات ، وخصوصا أشرف الأشجار ، العنب والنخل ، فالعنب في وسطها ، والنخل قد حف بذلك ، ودار به ، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه ، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح ، التي تكمل بها الثمار ، وتنضج وتتجوهر ، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا ، فلم يبق عليهما إلا أن يقال : كيف ثمار هاتين الجنتين ؟ وهل لهما ماء يكفيهما ؟

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا} (32)

الضمير في { لهم } عائد على الطائفة المتجبرة التي أرادت من النبي عليه السلام أن يطرد فقراء المؤمنين { الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } [ الكهف : 28 ] وعلى أولئك الداعين أيضاً ، فالمثل مضروب للطائفتين ، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبر في قريش أو بني تميم على الخلاف المذكور أولاً ، والرجل المؤمن المقر بالربوبية ، هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم { وحففناهما } بمعنى وجعلنا ذلك لها من كل جهة ، تقول حفك الله بخير : أي عمك به من جهاتك ، و «الحفاف » الجانب من السرير والفدان ونحوه ، وظاهر هذا المثل أنه بأمر وقع وكان موجوداً ، وعلى ذلك فسره أكثر أهل هذا التأويل ، ويحتمل أن يكون مضروباً بمن هذه صفته وإن لم يقع ذلك في وجود قط ، والأول أظهر ، وروي في ذلك أنهما كانا أخوين من بني إسرائيل ، ورثا أربعة آلاف دينار فصنع أحدهما بماله ما ذكر واشترى عبيداً وتزوج وأثرى ؛ وأنفق الآخر ماله في طاعات الله عز وجل حتى افتقر ، والتقيا ففخر الغني ووبخ المؤمن ، فجرت بينهما هذه المحاورة ، روي أنهما كانا شريكين حدادين ، كسبا مالاً كثيراً وصنعا نحو ما روي في أمر الأخوين ، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه ، وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد ، أن بحيرة تنيس{[7806]} كانت هاتين الجنتين ، وكانتا لأخوين ، فباع أحدهما نصيبه من الآخر ، وأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما هذه المحاورة ، قال : فغرقها الله في ليلة ، وإياها عنى بهذه الآية ، وفي بسط قصصهما طول فاختصرته واقتصرت على معناه لقلة صحته ، ولأن في هذا ما يفي بفهم الآية ، وتأمل هذه الهيئة التي ذكر الله ، فإن المرء لا يكاد يتخيل أجمل منها في مكاسب الناس : جنتا عنب أحاط بهما نخل ، بينهما فسحة ، هي مزدرع لجميع الحبوب ، والماء الغيل{[7807]} يسقى جميع ذلك من النهر الذي قد جمل هذا المنظر ، وعظم النفع ، وقرب الكد ، وأغنى عن النواضح وغيرها .


[7806]:ضبطها الحموي في (معجم البلدان) بكسر التاء والنون مع تشديد النون، وقال: هي جزيرة في بحر مصر قريبة من البر، ما بين الفرما ودمياط، ثم وصف بحيرتها، وتكلم عن تاريخها وعلمائها وأطال في ذلك. فهل هي المقصودة هنا؟
[7807]:الغيل: الماء الجاري على وجه الأرض، وقد نقل أبو حيان في البحر كلام ابن عطية هنا، وجاءت العبارة فيه: "والماء المعين يسقي جميع ذلك".