تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

{ 55 - 57 } { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }

يقول تعالى : فلا تعجبك أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم ، فإنه لا غبطة فيها ، وأول بركاتها عليهم أن قدموها على مراضى ربهم ، وعصوا اللّه لأجلها { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } والمراد بالعذاب هنا ، ما ينالهم من المشقة في تحصيلها ، والسعي الشديد في ذلك ، وهم القلب فيها ، وتعب البدن .

فلو قابلت لذاتهم فيها بمشقاتهم ، لم يكن لها نسبة إليها ، فهي -لما ألهتهم عن اللّه وذكره- صارت وبالا عليهم حتى في الدنيا .

ومن وبالها العظيم الخطر ، أن قلوبهم تتعلق بها ، وإرادتهم لا تتعداها ، فتكون منتهى مطلوبهم وغاية مرغوبهم ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيب ، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }

فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشقاء الدائم والحسرة الملازمة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال . { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب . { وتزهق أنفسهم وهم كافرون } فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم . وأصل الزهوق الخروج بصعوبة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ} (55)

تفريع على مذمّة حالهم في أموالهم ، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طُمَأنِينَة بال ، بإعلام المسلمين أنّ ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محلّ إعجاب المؤمنين ، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئاً من الحظّ العاجل ببيان أنّ ذلك سبب في عذابهم في الدنيا .

فالخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمراد تعليم الأمّة .

ومعنى هذه الآية : أنّ الله كشف سرّاً من أسرار نفوس المنافقين بأنّه خلق في نفوسهم شحّاً وحرصاً على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه ، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جرّاء أموالهم ، فهم في كَبَد من جمعها . وفي خوف عليها من النقصان ، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها ، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة ، وتمّ مراده . وهذا من أشدّ العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشحّ مطلقاً ، إلاّ أنّ المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر . ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم ، إذ الخلق السيّء يدعو بعضه بعضاً ، فإنّ الكفر خُلق سيّء فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح ، والنفاق يبعث عليه الخلقُ السيّء من الجُبن والبخل ، ليتقّي صاحبه المخاطر ، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم ، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفّقين إلى الإسلام : مثل حنظلة : ابن أبي عامر الملقّببِ غَسيلَ الملائكة ، وعبد الله بننِ عبدِ الله بننِ أُبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما .

ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكلّ ما هو مظنّة أن ينتفع به الناس ، عُطف الأولاد بإعادة حرف النفي بَعْد العاطف ، إيماء إلى أنّ ذكرهم كالتكملة والاستطراد .

واللام في { ليعذّبهم } للتعليل : تعلّقت بفعل الإرادة للدلالة على أنّ المراد حكمة وعلّة فتغني عن مفعول الإرادة ، وأصل فعل الإرادة أن يعدَّى بنفسه كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ويعدّى غالباً باللام كما في هذه الآية وقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) وقول كُثيّرِ :

أريدُ لأنْسَى حُبَّها فكأنما *** تَمَثَّلُ لِي ليلَى بكلّ مكان

وربما عَدَّوه باللام وكَي مبالغةً في التعليل كقول قيس بن عُبادة :

أردتُ لكيما يعلمَ الناس أنّها *** سراويلُ قيس والوفُود شهود

وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر . وبعضُ القرّاء سمّاها ( لام أنْ ) بفتح الهمزة وتقدم عند قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .

فقوله : { في الحياة الدنيا } متعلّق ب { يعذبهم } ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف { وتزهق } على { ليعذبهم } باعتبار كونه أراده الله لهم عندما رزقهم الأموال والأولاد فيعلم منه : أنّه أراد موتهم على الكفر ، فيستغرق التعذيبُ بأموالهم وأولادهم حياتَهم كلّها ، لأنّهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشحّ .

وجملة : { وهم كافرون } في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنّه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً .

والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } [ المائدة : 100 ] أي استحسنت مرأى وفرة عدده .

و ( الزهوق ) الخروج بشدّة وضيق ، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد ، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة .