وأما البيوت التي ليس فيها أهلها ، وفيها متاع الإنسان المحتاج للدخول إليه ، وليس فيها أحد يتمكن من استئذانه ، وذلك كبيوت الكراء وغيرها ، فقد ذكرها بقوله :
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي : حرج وإثم ، دل على أن الدخول من غير استئذان في البيوت السابقة ، أنه محرم ، وفيه حرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } وهذا من احترازات القرآن العجيبة ، فإن قوله : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } لفظ عام في كل بيت ليس ملكا للإنسان ، أخرج منه تعالى البيوت التي ليست ملكه ، وفيها متاعه ، وليس فيها ساكن ، فأسقط الحرج في الدخول إليها ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } أحوالكم الظاهرة والخفية ، وعلم مصالحكم ، فلذلك شرع لكم ما تحتاجون إليه وتضطرون ، من الأحكام الشرعية .
{ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } كالربط والحوانيت والخانات والخانقات . { فيها متاع } استماع . لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والجلوس للمعاملة ، وذلك استثناء من الحكم السابق لشموله البيوت المسكونة وغيرها . { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعيد لمن دخل مدخلا لفساد أو تطلع على عورات .
روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر فكان لا يأتي موضعاً خرباً ولا مسكوناً إلا سلم واستأذن فنزلت هذه الآية أباح الله فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد ، لأن العلة إنما هي في الاستئذان خوف الكشفة على الحرامات فإذا زالت العلة زال الحكم ، ومثل أهل التأويل من هذه البيوت أمثلة فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد هي الفنادق التي في طرق المسافرين ، قال مجاهد لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل و { فيها متاع } لهم أي استمتاع بمنفعتها ، ومثل عطاء في بيوت غير مسكونة بالخرب{[8669]} التي يدخلها الإنسان للبول والغائط ففي هذا أيضاً متاع ، وقال ابن زيد والشعبي هي حوانيت القيساريات{[8670]} والسوق ، وقال الشعبي لأنهم جاؤوا ببيوعهم فجعلوها فيها وقالوا للناس هلم ، ع وهذا قول غلط قائله لفظ المتاع ، وذلك أن بيوت القيسارية محظورة بأموال الناس غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع ، ولا يدخلها إلا من أُذن له بها ، بل أربابها موكلون بدفع الناس عنها ، وقال محمد بن الحنفية أيضاً أراد تعالى دور مكة ، وهذا على القول بأنها غير متملكة وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة ، وهذا هو في هذه المسألة القول الضعيف ، يرده قوله عليه السلام «وهل ترك لنا عقيل منزلاً »{[8671]} وقوله «من دخل دار أبي سفيان » «ومن دخل داره »{[8672]} وغير ذلك من وجوه النظر وباقي الآية بين ظاهره التوعد .
هذا تخصيص لعموم قوله : { بيوتاً غير بيوتكم } [ النور : 27 ] بالبيوت المعدة للسكنى ، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة على طرق المسافرين لنزولهم ، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم ، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية . ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعاً وأقتاباً وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم .
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق . وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع ، والحمامات ، وحوانيت التجار ، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه . فمعنى قوله : { غير مسكونة } أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة .
وأما الخوانيق ( جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاهْ ) وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية ، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم ، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور ، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم .
وقوله : { فيها متاع لكم } صفة ثانية ل { بيوتاً } .
والمتاع : الجهاز من العروض والسلع والرحال . وظاهر قوله : { فيها متاع } أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول . ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب . وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس .
وقد فسر المتاع بالمصدر ، أي التمتع والانتفاع . قال جابر بن زيد : كل منافع الدنيا متاع . وقال أبو جعفر النحاس : هذا شرح حسن من قول إمام من أيمة المسلمين وهو موافق للغة ، وتبعه على ذلك في « الكشاف » . ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها .
وجملة : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجاً إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.