تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ} (57)

ثم ذكر شدة جبنهم فقال : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } يلجأون إليه عندما تنزل بهم الشدائد ، { أَوْ مَغَارَاتٍ } يدخلونها فيستقرون فيها { أَوْ مُدَّخَلًا } أي : محلا يدخلونه فيتحصنون فيه { لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي : يسرعون ويهرعون ، فليس لهم ملكة ، يقتدرون بها على الثبات .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ} (57)

{ لو يجدون ملجأ } حصنا يلجؤون إليه { أو مغارات } غيرانا . { أو مُدخلاً } نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب { مدخلا } من مدخل . وقرئ { مدخلا } أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و " متدخلا " و " مندخلا " من تدخل واندخل { لولّوا إليه } لأقبلوا نحوه . { وهم يجمحون } يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح . وقرئ " يجمزون " ومنه الجمازة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ} (57)

«الملجأ » من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم ، وقرأ جمهور الناس «أو مَغارات » بفتح الميم ، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف «أو مُغارات » بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج{[5707]} ، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله ، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة ، وقيل إن العرب تقول : غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل ، قال الزجّاج : إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضاً من هذا .

قال القاضي أبو محمد : ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مُغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم ، فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون عصرة{[5708]} أو أموراً مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلاً لولوا إليه ، وقرأ جمهور الناس «أو مُدخلاً » أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق{[5709]} في الأرض ، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات ، «والمُدخل » فسر ابن عباس رضي الله عنه ، وقال الزجّاج «المُدخل » معناه قوماً يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «أو مَدخلاً » فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش «أو مدّخّلاً » بتشديدهما{[5710]} وقرأ أبي بن كعب «مندخلاً » قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر [ الكميت ] : [ البسيط ]

ولا يدي في حميت السمن تندخل{[5711]}

قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم : قراءة أبي بن كعب «متدخلاً » بتاء مفتوحة ، وروي عن الأعمش وعيسى «مُدخلاً » بضم الميم فهو من أدخل ، وقرأ الناس { لولوا } وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل{[5712]} «لوالوا » من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظن لوالوا بمعنى للجؤوا{[5713]} ، وقرأ جمهور الناس ، «يجمحون » معناه يسرعون مصممين غير منثنين ، ومنه قول مهلهل : [ البسيط ]

لقد جمحت جماحاً في دمائهم*** حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا{[5714]}

وقرأ أنس بن مالك «يجمزون » ومعناه يهربون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما أذلقته الحجارة جمز{[5715]} .


[5707]:- الحجاج بفتح الحاء وبكسرها: العظم المستدير حول العين، وفي الحديث: (كانت الضبع وأولادها في حجاج عين رجل من العماليق). (النهاية في غريب الحديث-لابن الأثير).
[5708]:-العُصرة: الملجأ والمنجاة، يقال: عصر بالشيء واعتصر به: لجأ إليه. (اللسان).
[5709]:- السّرب بفتح السين المشددة والراء: حفير تحت الأرض، وقيل: بيت تحت الأرض، وهو أيضا: حجر الثعلب والأسد والضبع والذئب. والنفق: مثله وزنا ومعنى. والجمع منهما أسراب وأنفاق.
[5710]:-يريد بتشديد الدال والخاء.
[5711]:- البيت للكميت، وهو بتمامه: لا خطوتي تتعاطى غير موضعها ولا يدي في حميت السمن تندخل قال في اللسان: وليس بالفصيح. ورواية "البحر" و"الألوسي" مثل رواية ابن عطية: السمن، والذي في "اللسان" و"التاج": "في حميت السكن" بسكون الكاف، اسم جمع لساكن، مثل ركب وراكب، وصحب وصاحب. والحميت هو الزق الذي نتف ما عليه من شعر، وهو للسمن.
[5712]:-هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا. ورواية "البحر" أوضح، ولفظها: "وروى ابن أبي عبيد بن معاوية بن نوفل، (بدلا من "قرمل") "عن أبيه عن جده وكانت له صحبة".
[5713]:- قال في اللسان: وأل إليه وألا ووءولا ووئيلا ووءال مواءلة ووئالا: لجأ، والموئل: الملجأ.
[5714]:- الجموح هو الإسراع الذي لا يرده شيء، ومنه قولهم: "فرس جموح" وهو الذي لم يردّه اللجام، ونقل في اللسان عن الأزهري أن هذا قد يكون عيبا في الفرس، وهذا إذا كان من عادته ركوب الرأس. ويسمى جماحا، وقد يكون مدحا للفرس بمعنى السرعة والنشاط ومصدره الجموح، ومنه قول امرئ القيس: جموحا مروحا وإحضارها كمعمعة السعف الموقد لكن بيت المهلهل لا ينطبق عليه هذا الكلام، فهو يصور سرعته التي لا تنثني في إسالة دمائهم حتى قضى عليهم، والبيت في رواية "البحر المحيط": حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا.
[5715]:-جاء ذلك في حديث ماعز بن مالك رضي الله عنه، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال له: (لعلك قبّلت، أو غمزت أو نظرت..) فقال: لا يا رسول الله، فأمر برجمه، فلما أذلقته الحجارة جمز وفرّ"، ومعنى أذلقته: بلغت منه الجهد حتى قلق، ومعنى جمز: أسرع هاربا من القتل.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ} (57)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عنهم، فقال: {لو يجدون ملجأ} يعني حرزا يلجؤون إليه، {أو مغارات}، يعني الغيران في الجبال، {أو مدخلا}، يعني سربا في الأرض، {لولوا إليه} وتركوك يا محمد، {وهم يجمحون} يعني يستبقون إلى الحرز...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون "ملجأ"، يقول: عَصَرا يعتصرون به من حصن، ومعقلاً يعتقلون فيه منكم، "أو مَغَارَاتٍ "وهي الغيران في الجبال، واحدتها: مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل... "أو مُدّخَلاً" يقول: سَرَبا في الأرض يدخلون فيه... وقوله: "لَوَلّوْا إلَيْهِ" يقول: لأدبروا إليه هربا منكم. "وَهُمْ يَجْمَحُونَ" يقول: وهم يسرعون في مشيهم. وقيل: إن الجماح مشى بين المشيين...

وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة، لأنهم إنما أقاموا بين أظهر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم، ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر [كذا، ولعله: بإخفاء الكفر] ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم، فقال الله واصفهم بما في ضمائرهم: "لَوْ يَجِدُونَ مَلْجأً أوْ مَغارَاتٍ..."...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

إن المماذِق في الخُلَّة ينسلُّ عن سِلْكِها بأضعف خلَّة، وإنْ وَجَدَ مهرباً آوَى إليه، ويأمل أن ينال فرصةً ما يتعللُ بها عند ذلك...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي: الملجأ، والمغارات، والمدخل، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه، فالملجأ: يحتمل الحصون، والمغارات: الكهوف في الجبال، والمدخل: السرب تحت الأرض نحو الآبار...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

{لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون في ذهابهم عنكم، لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة، وودوا أنهم لا يخالطونكم، ولكن للضرورة أحكام؛ ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغَمٍّ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزالون في عزّ ونصر ورفعة؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين؛ ولهذا قال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ}

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءَهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطراراً حتى إنهم لو وجدوا غيرَ ذلك ملجأ أي مكاناً حصيناً يلجؤون إليه من رأس جبل أو قلعةٍ أو جزيرة، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الشرط وإن كان المعنى على المُضِيّ لإفادة استمرارِ عدمِ الوجدانِ فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس نصاً في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعلِ كما هو الظاهرُ بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً حسبما يقتضيه المقامُ...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... يقول إنهم لشدة كرههم للقتال معكم ولمعاشرتكم، ولشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم، يتمنون الفرار منكم والمعيشة في مضيق من الأرض يعتصمون به من انتقامكم، بحيث لو يجدون ملجأ يلجؤون إليه، أو مغارات يغورون فيها، أو مدخلاً يندسون وينجحرون فيه، لولوا إليه أي إلى ما يجدونه مما ذكر وهم يسرعون مقتحمين كالفرس الجموح لا يردهم شيء. وهذا الوصف من أبلغ مبالغة القرآن في تصوير الحقائق التي لا تتجلى للفهم والعبرة بدونها، فتصور شخوصهم وهم يعدون بغير نظام، يلهثون كما تلهث الكلاب، يتسابقون إلى تلك الملاجئ من مغارات ومدخلات، فيتسلقون إليها، أو يندسون فيها، فكذلك كان تصورهم عند ما سمعوا الآية في وصفهم...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنهم جبناء، والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهداً ويجسمه في حركة. حركة النفس والقلب، يبرزها في حركة جسد وعيان: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون).. فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يحتمون به، ويأمنون فيه. حصناً أو مغارة أو نفقاً. إنهم مذعورون مطاردون يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي. ومن هنا: (يحلفون باللّه إنهم لمنكم).. بكل أدوات التوكيد، ليداروا ما في نفوسهم، وليتقوا انكشاف طويتهم، وليأمنوا على ذواتهم.. وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء. لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب. الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

... هذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إِخوانهم المؤمنين، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض، لَولّوا إِليه وهم يجمحون، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة، كل ذلك يضطرهم إِلى البقاء على رغم أنوفهم.