اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوۡ يَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَٰرَٰتٍ أَوۡ مُدَّخَلٗا لَّوَلَّوۡاْ إِلَيۡهِ وَهُمۡ يَجۡمَحُونَ} (57)

قوله : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ } . " المَلْجَأ " : الحِصْن . وقال عطاءٌ : المَهْرب{[17886]} وقيل : الحِرْز وهو " مَفْعَل " ، مِنْ : لَجَأ إليه ، يلجأ ، أي : انحاز . يقال : ألجَأتُهُ إلى كذا أي : اضطررته إليه فالتَجَأ . و " الملجأ " يصلحُ للمصدر ، والزمان ، والمكان . والظَّاهرُ منها - المكان . و " المغارات " جمع " مغارة " ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي : يستقر . وقال أبُو عبيدٍ : كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك ، ومنه : غار الماء في الأرض ، وغارت العين . وهي مفعلة ، مِنْ : غَارَ يغُورُ ، فهي كالغَار في المعنى . وقيل : المغارة : السِّرْب ، كنفق اليربوع .

والغار : النَّقْبُ في الجبل . والجمهورُ على فتح ميم " مغارات " . وقرأ عبدُ{[17887]} الرحمن بن عوف " مُغارات " بالضم ، وهو من : أغار ، و " أغار " يكون لازماً ، تقول العربُ : " أغار " بمعنى " غار " أي : دخل . ويكون متعدّياً ، تقول العرب : أغرت زيداً ، أي : أدخلته في الغار ، فعلى هذا يكون من " أغار " المتعدِّي ، والمفعول محذوف ، أي : أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم ، أي : يُغَيِّبُونها . و " المُدَّخل " : " مُفْتَعَل " مِنَ : الدخول ، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى ، والأصل : " مُدْتَخل " فأدغمت " الدال " في " تاء " الافتعال ك : " ادَّانَ " من " الدَّين " . وقرأ قتادة ، وعيسى{[17888]} بن عمر ، والأعمش " مُدَّخَّلاً " بتشديد الدال والخاء معاً . وتوجيهها أن الأصل " مُتدَخَّلاً " ، من : تدخَّل " بالتَّضعيف ، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ " مُدخَّلاً " نحو " مُدَّيَّن " من " تَديَّن " .

وقرأ الحسنُ أيضاً{[17889]} ، ومسلمةُ بن محاربٍ ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وابن كثير ، في رواية " مَدْخَلاً " بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة ، مِنْ " دخل " . وقرأ{[17890]} الحسنُ في رواية محبوب كذلك ، إلاَّ أنه ضمَّ الميم ، جعله من " أدخل " . وهذا من أبدع النَّظم ، ذكر أولاً الأمر الأعم ، وهو " الملجأ " من أي نوع كان ، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن ، وهي الجبالُ ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة ، وهي السُّروب ، وهي التي عبَّر عنها ب " المُدَّخل " . وقال الزجاج : يصحُّ أن تكون " المغارات " من قولهم : " حَبل مُغار " أي : محكم الفتل ، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون نصرة ، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل " المُدَّخَل " أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم . وقرأ أبي{[17891]} " مُنْدَخَلاً " بالنون بد الميم ، من " انْدخَلَ " ؛ قال : [ البسيط ]

. . . *** ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ{[17892]}

وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه ، وقال : إنَّما هي بالتاء ، وهو معذورٌ ، لأنَّ " انفعل " قاصر لا يتعدى ، فكيف يبنى منه اسم مفعول ؟ وقرأ الأشهب{[17893]} العقيلي " لوالَوْا " ، أي : لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل ، عن أبيه ، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة . وهذا مما جاء فيه " فعَّل " ، و " فاعل " بمعنى ، نحو : ضَعَّفْتُه ، وضَاعَفْتُه .

قال سعيد بن مسلم : أظنها " لَوألُوا " بهمزة مفتوحة بعد الواو ، من " وأل " ، أي : التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء . و " الجُموح " النُّفُور بإسراع ؛ ومنه : فرس جمُوحٌ ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ ؛ قال : [ المتقارب ]

سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا *** كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ{[17894]}

وقال آخر : [ البسيط ]

وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ *** حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا{[17895]}

وقرأ أنس{[17896]} بن مالك ، والأعمش : يَجْمِزُون . قال ابن عطية{[17897]} يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل : يَجْمِزُونَ ، ويَجْمَحُونَ ، ويشتدُّون بمعنى " .

وفي الحديث : " فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ{[17898]} " وقال رؤبة : [ الرجز ]

إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ *** قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي{[17899]}

ومنه " يَعْدُو الجَمَزَى " وهو أن يجمع رجليه معاً ، ويهمز بنفسه ، هذا أصله في اللغة وقوله : " إليهِ " عاد الضميرُ على " الملجأ " أو على " المُدَّخل " ، لأنَّ العطف ب " أوْ " ، ويجوز أن يعود على " المغارات " لتأويلها بمذكر . ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم .


[17886]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/301).
[17887]:ينظر: المحرر الوجيز 3/46، البحر المحيط 5/56، الدر المصون 3/474 الكشاف 2/281.
[17888]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/93، المحرر الوجيز 3/46، البحر المحيط 5/56، الدر المصون 3/474.
[17889]:ينظر: الكشاف 2/281، إتحاف 2/93، المحرر 3/46، البحر 5/56، الدر 3/474.
[17890]:ينظر: السابق.
[17891]:ينظر: السابق.
[17892]:عجز بيت للكميت وصدره: لا خطوتي تتعاطى غير موضعها *** ... ينظر: ديوانه (2/13) المحتسب 1/296، المنصف 1/72 البحر 5/56 الدر المصون 3/475 روح المعاني 1/199 حاشية الشهاب 4/335 اللسان 2/1340 [دخل].
[17893]:وقرأ بها جد أبي عبيدة بن قرمل. ينظر: الكشاف 2/281، المحرر الوجيز 3/46، البحر المحيط 5/57، الدر المصون 3/475.
[17894]:البيت لامرئ القيس ينظر: ديوانه 187، واللسان (جمح) والبحر المحيط 5/37، الدر المصون 3/475.
[17895]:ينظر: الطبري 14/299، والبحر المحيط 5/37، الدر المصون 3/475.
[17896]:ينظر: الكشاف 2/281، المحرر الوجيز 3/46، البحر المحيط 5/57، الدر المصون 3/475.
[17897]:ينظر: المحرر الوجيز 3/46.
[17898]:هو حديث رجم ماعز وقد تقدم تخريجه.
[17899]:تقدم.