تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

{ 87 } { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ } حين اشتد الأمر على قومهما ، من فرعون وقومه ، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم .

{ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } أي : مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا ، يتمكنون ]به[ من الاستخفاء فيها .

{ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : اجعلوها محلا ، تصلون فيها ، حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس ، والبيع العامة .

{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فإنها معونة على جميع الأمور ، { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } بالنصر والتأييد ، وإظهار دينهم ، فإن مع العسر يسرًا ، إن مع العسر يسرًا ، وحين اشتد الكرب ، وضاق الأمر ، فرجه الله ووسعه .

فلما رأى موسى ، القسوة والإعراض من فرعون وملئه{[414]} ، دعا عليهم وأمن هارون على دعائه ، فقال :


[414]:- في النسختين: وملئهم، ولعل الصواب ما أثبت.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وكيفية خلاصهم منهم{[14367]} وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون ، عليهما السلام { أَنْ تَبَوَّءَا } أي : يتخذا لقومهما بمصر بيوتا .

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً }{[14368]} فقال الثوري وغيره ، عن خُصَيْف ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : أمرُوا أن يتخذوها مساجد .

وقال الثوري أيضا ، عن ابن منصور ، عن إبراهيم : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .

وكذا قال مجاهد ، وأبو مالك ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبوه زيد بن أسلم : وكأن هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 156 ] . وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . أخرجه أبو داود{[14369]} . ولهذا{[14370]} قال تعالى في هذه الآية : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالثواب والنصر القريب .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى ، عليه السلام : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة ، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة . وقال مجاهد : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : لما خاف بنو إسرائيل من

فرعون أن يقتلوا{[14371]} في الكنائس الجامعة ، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة ، يصلون فيها سرًّا . وكذا قال قتادة ، والضحاك .

وقال سعيد بن جبير : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : يقابل بعضها بعضا .


[14367]:- في أ : "منه".
[14368]:- في ت : "وجعلوا".
[14369]:- سنن أبي داود برقم (1319) من حديث حذيفة ، رضي الله عنه.
[14370]:- في ت ، أ : "وكذا".
[14371]:- في ت : "أن يصلوا".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر ، قال مجاهد : { مصر } في هذه الآية الإسكندرية ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر ، و { تبوّآ } معناه كما قلنا تخيراً واتخذا ، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت*** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا{[6203]}

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرىء القيس : [ الكامل ]

يتبوأون مقاعداً لقتالكم*** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير{[6204]}

وقرأ الناس «تبوّآ » بهمزة على تقدير تبوعا{[6205]} ، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا » وهذا تسهيل ليس بقياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، قوله { قبلة } ومعناه مساجد ، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم ، قالوا : خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم ، وقيل يقابل بعضها بعضاً ، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب ، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة ، قاله ابن عباس ، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة » ، وقوله { وأقيموا الصلاة } خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر{[6206]} ، وقوله { وبشر المؤمنين } أمر لموسى عليه السلام ، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا غير متمكن


[6203]:- البيت للراعي كما قال ابن عطية، واسمه عبيد بن الحصين، وهو من فحول الشعراء، عدّه ابن سلام الجمحي في كتابه "الطبقات" من فحول الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين، وكان يفضل الفرزدق على جرير، وله في ذلك قصة مشهورة، وقد روي البيت بلفظ: "لأمحالها" و"لأخفافها" جمع خفّ بدلا من "لأقحافها"، والأقحاف: جمع قِحف، والقحف واحد من أقحاف ثمانية تكون الجمجمة، والمعنى واضح على روايتي الأخفاف والأقحاف.
[6204]:- في (اللسان): "تبوأ فلان منزلا: اتخذه، وتبوأت منزلا: نزلته، وعليه قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} فمعنى يتبوءون في البيت: ينزلونها ويتخذونها مقاعد للقتال. والزئير: صوت الأسد يكون من صدره.
[6205]:- يوجد بياض بالأصل في أكثر النسخ، وفي نسخة واحدة: "على تقدير: تبوعا".
[6206]:- يقال: جاز الموضع وبه: سار فيه وقطعه، ويقال: أجاز الموضع: جازه. (المعجم الوسيط).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتا، يقال منه: تبوأ فلان لنفسه بيتا: إذا اتخذه...

"وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" يقول: واجعلوا بيوتكم مساجد تصلون فيها.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً"؛ فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه... عن ابن عباس، في قول الله تعالى: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قال: كانوا يفرقون من فرعون وقومه أن يصلوا، فقال لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة، يقول: اجعلوها مسجدا حتى تصلوا فيها... وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قبل الكعبة... وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي قدمنا بيانه وذلك أن الأغلب من معاني البيوت وإن كانت المساجد بيوتا، البيوت المسكونة إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد لأن المساجد لها اسم هي به معروفة خاصّ لها، وذلك المساجد، فأما البيوت المطلقة بغير وصلها بشيء ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة، وكذلك القبلة الأغلب من استعمال الناس إياها في قِبَل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به دون الخفي المجهول ما لم تأت دلالة تدلّ على غير ذلك، ولم يكن على قوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" دلالة تقطع العذر بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب، لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله: "قِبْلَةً وأقِيمُوا الصّلاةَ" يقول تعالى ذكره: وأدّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها.

وقوله: "وَبَشّرِ المُؤمِنِينَ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله يا محمد المؤمنين بالثواب الجزيل منه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(واجعلوا بيوتكم قبلة) أي اجعلوا بيوتكم التي بنيتم لأنفسكم قبلة تتوجهون إليها. ويكون فيه دلالة أن نصب الجماعة واتخاذ المساجد والقبلة متوارثة ليست ببديعة لنا وفي شريعتنا خاصة، ويؤيد ما ذكرنا أن فيه الأمر باتخاذ المساجد.

(وأقيموا الصلاة) دل الأمر بإقامة الصلاة على أن الأمر بتبوئة البيوت أمر باتخاذ المساجد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه {واجعلوا بُيُوتَكُمْ} تلك {قِبْلَةً} أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة... وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة.

فإن قلت: كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلاً، ثم جمع، ثم وحد آخراً. قلت: خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيماً لها وللمبشر بها.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات... ثم قال: {واجعلوا بيوتكم قبلة} وفيه أبحاث:

البحث الأول: من الناس من قال: المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} ومنهم من قال: المراد مطلق البيوت، أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة، ثم قالوا: والمراد من قوله: {واجعلوا بيوتكم قبلة} أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة، وقال الفراء: واجعلوا بيوتكم قبلة، أي إلى القبلة، وقال ابن الأنباري: واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلا يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان، والمراد الجمع، واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت؟ فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه، إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال: كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام. وكان الحسن يقول: الكعبة قبلة كل الأنبياء، وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس. وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت، فهؤلاء لهم في تفسير قوله: {قبلة} وجهان: الأول: المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة، والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقال آخرون: المراد واجعلوا دوركم قبلة، أي صلوا في بيوتكم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... {واجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي متقابلة في وجهة واحدة، فالقبلة في اللغة ما يقابل الإنسان ويكون تلقاء وجهه، ومنه قبلة الصلاة- وهي أخص- ويصح الجمع هنا بين المعنيين العام والخاص بقرينة قوله {وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} أي فيها متوجهين إلى وجهة واحدة؛ لأن الاتحاد في الاتجاه يساعد على اتحاد القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حكمة تسوية الصفوف في الصلاة:"ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، وحكمة هذا أن يكونوا مستعدين لتبليغها إياهم ما يهمهم ويعينهم مما بعثنا لأجله وهو إنجاؤهم من عذاب فرعون بإخراجهم من بلاده. واختلف المفسرون في الجهة التي أمروا باستقبالها والتوجه إليه في الصلاة وهي لا تعلم إلا بنص ولا نص. {وبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بحفظ الله إياهم من فتنة فرعون وملئه الظالمين لهم وتنجيتهم من ظلمهم...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإنها معونة على جميع الأمور.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وعقب هذا التميز، وفي فترة الانتظار بعد الجولة الأولى، وإيمان من آمن بموسى، أوحى اللّه إليه وإلى هارون أن يتخذا لبني إسرائيل بيوتاً خاصة بهم، وذلك لفرزهم وتنظيمهم استعداداً للرحيل من مصر في الوقت المختار؛ وكلفهم تطهير بيوتهم، وتزكية نفوسهم، والاستبشار بنصر اللّه:

(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين)..

وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية. وهما معاً ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات. ولقد يستهين قوم بهذه التعبئة الروحية، ولكن التجارب ما تزال إلى هذه اللحظة، تنبئ بأن العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدة.

وهذه التجربة التي يعرضها اللّه على العصبة المؤمنة ليكون لها فيها أسوة، ليست خاصة ببني إسرائيل، فهي تجربة إيمانية خالصة. وقد يجد المؤمنون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة -وكذلك كان الحال على عهد فرعون في هذه الفترة- وهنا يرشدهم اللّه إلى أمور:

اعتزال الجاهلية بنتنها وفسادها وشرها -ما أمكن في ذلك- وتجمع العصبة المؤمنة الخيرة النظيفة على نفسها، لتطهرها وتزكيها، وتدربها وتنظمها، حتى يأتي وعد اللّه لها.

اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي؛ وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم في جو العبادة الطهور.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإني أرى أن المراد بأن تكون بيوتهم قبلة هو أن يعلمها بقية بني إسرائيل فيتجهون إليها ويأرزون نحوها فيجتمعون فيها وتكون حوزة يتحيزون إليها. والجميع أمروا بإقامة الصلاة، ثم قال تعالى: {وبشر المؤمنين}، أي أن من يؤمن منهم له البشرى في الدنيا والآخرة وأن الله ولي المؤمنين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

شرحت هذه الآيات مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا: (وأوحينا إِلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة)

فالأمر الإلهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر وأن تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: (وأقيموا الصلاة) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت: (وبشّر المؤمنين).

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:

الاهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّة فوائد:

إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.

والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة.

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

التوجه إِلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.

إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى باعتباره قائداً بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من أشكال الخوف والرعب التي كانت من إفرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو وإخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي...